كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 5)

وَقَوْلُهُ: {إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أَيْ: مَجْنُونٌ فِيمَا يَزْعُمُهُ، مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ، وَاخْتَصَّهُ مِنْ بَيْنِكُمْ بِالْوَحْيِ {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} أَيِ: انتَظِرُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، وَاصْبِرُوا عَلَيْهِ مُدَّةً حَتَّى تَسْتَرِيحُوا مِنْهُ.
{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) }
{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ يَسْتَنْصِرُهُ عَلَى قَوْمِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا [عَنْهُ] (1) فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [الْقَمَرِ: 10] ، وَقَالَ هَاهُنَا: { [قَالَ] (2) رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِصَنْعَةِ السَّفِينَةِ وَإِحْكَامِهَا وَإِتْقَانِهَا، وَأَنْ يَحْمِلَ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، أَيْ: ذَكَرًا وَأُنْثَى مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْحَيَوَاناتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالثِّمَارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنْ يَحْمِلَ فِيهَا أَهْلَهُ {إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} أَيْ: سَبَقَ فِيهِ الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ بِالْهَلَاكِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ مِنْ أَهْلِهِ، كَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أَيْ: عِنْدَ مُعَايَنَةِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ الْعَظِيمِ، لَا تَأْخُذَنَّكَ رَأْفَةٌ بِقَوْمِكَ، وَشَفَقَةٌ عَلَيْهِمْ، وطَمَع فِي تَأْخِيرِهِمْ لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ، فَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ أَنَّهُمْ مُغْرَقُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْقِصَّةُ مَبْسُوطَةً فِي سُورَةِ "هُودٍ" (3) بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ ذَلِكَ هَاهُنَا.
وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، كَمَا قَالَ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزُّخْرُفِ: 12-14] . وَقَدِ امْتَثَلَ نُوحٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هُودٍ:41] . فذَكَر اللهَ تَعَالَى عِنْدَ ابْتِدَاءِ سَيْرِهِ وَعِنْدَ انْتِهَائِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزلِينَ} .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أَيْ: إِنَّ فِي هَذَا الصَّنِيعِ -وَهُوَ إِنْجَاءُ المؤمنين وإهلاك الكافرين-
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) زيادة من أ.
(3) انظر تفسير الآيات: 25-48.

الصفحة 473