كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 5)

وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: ظَهَرَ بُختنَصَّر عَلَى الشَّامِ، فَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَقَتَلَهُمْ، ثُمَّ أَتَى دِمَشْقَ فَوَجَدَ بِهَا دَمًا يَغْلِي عَلَى كِبًا، فَسَأَلَهُمْ: مَا هَذَا الدَّمُ؟ فَقَالُوا أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذَا، وَكُلَّمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْكِبَا ظَهَرَ. قَالَ: فَقَتَلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَسَكَنَ (1) .
وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَأَنَّهُ قَتَلَ أَشْرَافَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يَحْفَظُ التَّوْرَاةَ، وَأَخَذَ مَعَهُ خَلْقًا مِنْهُمْ أَسْرَى مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَجَرَتْ أُمُورٌ وَكَوَائِنُ يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَلَوْ وَجَدْنَا مَا هُوَ صَحِيحٌ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ، لَجَازَ كِتَابَتُهُ وَرِوَايَتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أَيْ: فَعَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فُصِّلَتْ: 46] .
وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} أَيْ: الْمَرَّةُ الْآخِرَةُ (2) أَيْ: إِذَا أَفْسَدْتُمُ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ وَجَاءَ أَعْدَاؤُكُمْ {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} أَيْ: يُهِينُوكُمْ وَيَقْهَرُوكُمْ {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} أَيْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أَيْ: فِي الَّتِي جَاسُوا فِيهَا خِلَالَ الدِّيَارِ {وَلِيُتَبِّرُوا} أَيْ: يُدَمِّرُوا وَيُخَرِّبُوا {مَا عَلَوْا} أَيْ: مَا ظَهَرُوا عَلَيْهِ {تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} أَيْ: فَيَصْرِفَهُمْ عَنْكُمْ {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} أَيْ: مَتَى عُدْتُمْ إِلَى الْإِفْسَادِ {عُدْنَا} إِلَى الْإِدَالَةِ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا نَدَّخِرُهُ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَلِهَذَا قَالَ [تَعَالَى] (3) {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} أَيْ: مُسْتَقَرًّا وَمَحْصَرًا وَسِجْنًا لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] (4) : {حَصِيرًا} أَيْ: سِجْنًا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُحْصَرُونَ فِيهَا. وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: فِرَاشٌ وَمِهَادٌ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: قَدْ عَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَيَّ، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، يَأْخُذُونَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) }
يَمْدَحُ تَعَالَى كِتَابَهُ الْعَزِيزَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْقُرْآنُ، بِأَنَّهُ يَهْدِي لِأَقْوَمِ الطُّرُقِ، وَأَوْضَحِ السُّبُلِ {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} بِهِ {الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} عَلَى مُقْتَضَاهُ {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
{وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أَيْ: وَيُبَشِّرُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَنَّ {لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] .
__________
(1) تفسير الطبري (15/24) .
(2) في ت: "الأخرى".
(3) زيادة من ت.
(4) زيادة من ف، أ.

الصفحة 48