كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 5)

وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ (1) مِنْهُ، وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ" (2) .
{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) }
__________
(1) في ف: "منه ليتقبل" وفي أ: "فيتقبل".
(2) المسند (1/387) .
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} أَيْ: هُمْ مَعَ (1) إِحْسَانِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ، مُشْفِقُونَ مِنَ اللَّهِ خَائِفُونَ مِنْهُ، وَجِلُونَ مِنْ مَكْرِهِ بِهِمْ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَشَفَقَةً، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا.
{وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} أَيْ: يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مَرْيَمَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التَّحْرِيمِ: 12] ، أَيْ: أَيْقَنَتْ أَنَّ مَا كَانَ فَإِنَّمَا هُوَ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ، وَمَا شَرَعَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِنْ كَانَ أَمْرًا فَمِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا (2) فَهُوَ مِمَّا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، وَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَهُوَ حَقٌّ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} أَيْ: لَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، بَلْ يُوَحِّدُونَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَحَدًا صَمَدًا، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا كُفْءَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أَيْ: يُعْطُونَ الْعَطَاءَ (3) وَهُمْ خَائِفُونَ (4) أَلَّا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ، لِخَوْفِهِمْ (5) أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَصَّرُوا فِي الْقِيَامِ بِشُرُوطِ الْإِعَطَاءِ. وَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِشْفَاقِ وَالِاحْتِيَاطِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَل، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} ، هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: "لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ، وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَل، بِهِ بِنَحْوِهِ (6) . وَقَالَ: "لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: ورُوي هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ حديث عبد الرحمن بن سعيد، عن
__________
(1) في ف: "في" وفي أ: "من".
(2) في ف: "منهيا".
(3) في ف: "العطاء فيه".
(4) في أ: "خائفون وجلون".
(5) في ف: "تخوفهم".
(6) المسند (6/159) وسنن الترمذي برقم (3175) .

الصفحة 480