كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 5)

{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى مَا أَضَاعُوهُ فِي عُمْرِهِمُ الْقَصِيرِ فِي الدُّنْيَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَلَوْ صَبَروا فِي مُدَّةِ الدُّنْيَا الْقَصِيرَةِ لَفَازُوا كَمَا فَازَ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُتَّقُونَ، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} أَيْ: كَمْ كَانَتْ إِقَامَتُكُمْ فِي الدُّنْيَا؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} أَيِ: الْحَاسِبِينَ
{قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} أَيْ: مُدَّةً يَسِيرَةً عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ: لَمَا آثَرْتُمُ الْفَانِيَ عَلَى الْبَاقِي، وَلَمَا تَصَرَّفتم لِأَنْفُسِكُمْ هَذَا التَّصَرُّفَ السَّيِّئَ، وَلَا اسْتَحْقَقْتُمْ مِنَ اللَّهِ سُخْطَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَبَرْتُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ (1) -كَمَا فَعَلَ الْمُؤْمِنُونَ-لَفُزْتُمْ كَمَا فَازُوا.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الوَزير، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، عَنْ أَيْفَعَ بْنِ عَبْدٍ الكَلاعي؛ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَخْطُبُ النَّاسَ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَدْخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ، قَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. قَالَ: لَنِعْمَ مَا اتَّجَرْتُمْ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضِ يَوْمٍ: رَحْمَتِي وَرِضْوَانِي وَجْنَّتِي، امْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ مُخَلَّدِينَ؟ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ النَّارِ، كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. فَيَقُولُ: بِئْسَ مَا اتَّجَرْتُمْ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضِ يَوْمٍ: نَارِي وَسُخْطِي، امْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ مُخَلَّدِينَ" (2) .
وَقَوْلُهُ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} أَيْ: أَفَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ مَخْلُوقُونَ عَبَثًا بِلَا قَصْدٍ وَلَا إِرَادَةٍ مِنْكُمْ وَلَا حِكْمَةٍ لَنَا، {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} أَيْ: لَا تَعُودُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [الْقِيَامَةِ: 36] ، يَعْنِي هَمَلًا (3) .
وَقَوْلُهُ: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أَيْ: تقدَّس أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا عَبَثًا، فَإِنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ، {لَا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} ، فَذَكَرَ الْعَرْشَ؛ لِأَنَّهُ سَقْفُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ، أَيْ: حَسَنُ الْمَنْظَرِ بَهِيُّ الشَّكْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لُقْمَانَ: 10] .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسيّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ -شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ-أَنْبَأَنَا شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ سعيد بن العاص قال:
__________
(1) في ف: "على عبادته وطاعته".
(2) ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (1/187) بإسناده إلى الحكم بن موسى عن الوليد عن صفوان به.
(3) في أ: "مهملا".

الصفحة 500