كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 5)

وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا، وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْمُتَعَاضِدَةُ الشَّاهِدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي "كِتَابِ الِاعْتِقَادِ" وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ مُحَقِّقِي الْعُلَمَاءِ وَالْحُفَّاظِ النُّقَّادِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَري بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحَادِيثِ الِامْتِحَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَحَادِيثُ هَذَا الْبَابِ لَيْسَتْ قَوِيَّةً، وَلَا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ وَأَهْلُ الْعِلْمِ يُنْكِرُونَهَا؛ لِأَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ وَلَيْسَتْ دَارَ عَمَلٍ وَلَا ابْتِلَاءٍ، فَكَيْفَ يُكَلَّفُونَ دُخُولَ النَّارِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِ الْمَخْلُوقِينَ، وَاللَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا؟!
وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَ: أَنَّ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ يَقْوَى (1) بِالصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ. وَإِذَا كَانَتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ الْوَاحِدِ مُتَعَاضِدَةً عَلَى هَذَا النَّمَطِ، أَفَادَتِ الْحُجَّةَ عِنْدَ النَّاظِرِ فِيهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إِنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ". فَلَا شَكَّ أَنَّهَا دَارُ جَزَاءٍ، وَلَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ فِي عَرَصَاتِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، مِنَ امْتِحَانِ الْأَطْفَالِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [ن: 42] وَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ فِي الصِّحَاحِ (2) وَغَيْرِهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَلَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ وَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا كُلَّمَا أَرَادَ السُّجُودَ (3) خَرَّ لِقَفَاهُ (4) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي يَكُونُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ يَأْخُذُ عُهُودَهُ وَمَوَاثِيقَهُ أَلَّا يَسْأَلَ غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ، وَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ! ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ (5) .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَكَيْفَ يُكَلِّفُهُمْ (6) دُخُولَ النَّارَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِمْ؟ " فَلَيْسَ هَذَا بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ عَلَى جَهَنَّمَ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ، كَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَمِنْهُمُ السَّاعِي وَمِنْهُمُ الْمَاشِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْبُو حَبْوًا، وَمِنْهُمُ الْمَكْدُوشُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ، وَلَيْسَ مَا وَرَدَ فِي أُولَئِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ هَذَا بَلْ هَذَا أَطَمُّ وَأَعْظَمُ، وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ الدَّجَّالَ يَكُونُ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، وَقَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُدْرِكُونَهُ أَنْ يَشْرَبَ أَحَدُهُمْ مِنَ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ نَارٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، فَهَذَا نَظِيرُ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى [قَدْ] (7) أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قَتَلُوا فِيمَا قِيلَ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفًا، يَقْتُلُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ وَهُمْ فِي عَمَايَةٍ غَمَامَةٍ أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَهَذَا أَيْضًا شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ جِدًّا لَا يَتَقَاصَرُ (8) عَمَّا ورد في الحديث المذكور، والله أعلم.
__________
(1) في ف، أ: "يتقوى".
(2) في ت: "والصحاح".
(3) في ف: "سجودا".
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (4919) من حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(5) صحيح البخاري برقم (806) وصحيح مسلم برقم (182) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(6) في ت، ف: "كلفهم الله"، وفي أ: "يكفهم الله النار".
(7) زيادة من ت، ف، أ.
(8) في ف: "لا تتقاصر".

الصفحة 58