كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 5)

وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} قَالَا كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ الرُّوحُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ وَزَيْدُ بْنُ حُبَابٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ: كُنَّا مَعَ يَزِيدَ الرَّقاشي، وَمَعَهُ الْحَسَنُ فِي طَعَامٍ، فَقَدَّمُوا الْخِوَانَ، فَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، يُسَبِّحُ هَذَا الخِوَان؟ فَقَالَ: كَانَ يُسَبِّحُ مَرَّةً (1) .
قُلْتُ: الخِوَان هُوَ الْمَائِدَةُ مِنَ الْخَشَبِ. فَكَأَنَّ الْحَسَنَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَيًّا فِيهِ خُضْرَةٌ، كَانَ يُسَبِّحُ، فَلَمَّا قُطِعَ وَصَارَ خَشَبَةً يَابِسَةً انْقَطَعَ تَسْبِيحُهُ. وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ (2) ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتر مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي (3) بِالنَّمِيمَةِ". ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، ثُمَّ قَالَ: "لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (4) .
قَالَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا قَالَ: "مَا لَمْ يَيْبَسَا" لِأَنَّهُمَا يُسَبِّحَانِ مَا دَامَ فِيهِمَا خُضْرَةٌ، فَإِذَا يَبِسَا انْقَطَعَ تَسْبِيحُهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ [تَعَالَى] (5) {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} أَيْ: إِنَّهُ [تَعَالَى] (6) لَا يُعَاجِلُ مَنْ عَصَاهُ بِالْعُقُوبَةِ، بَلْ يُؤَجِّلُهُ وَيُنْظِرُهُ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَعِنَادِهِ أَخَذَهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ". ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (7) [هود: 102] الآية، وقَالَ [اللَّهُ] (8) تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الْحَجِّ: 48] . وَمَنْ أَقْلَعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ عِصْيَانٍ، وَرَجَعَ إِلَى اللَّهِ وَتَابَ إِلَيْهِ، تَابَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النِّسَاءِ: 110] .
وَقَالَ هَاهُنَا: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} كَمَا قَالَ فِي آخِرِ فَاطِرٍ: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} إِلَى أَنْ قَالَ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فَاطِرٍ: 41 -45] .
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) }
__________
(1) تفسير الطبري (15/65) .
(2) في ت:"كثير".
(3) في ت: "وأما الآخر فيمشي"، وفي أ: "وكان الآخر يمشي".
(4) صحيح البخاري برقم (218) وصحيح مسلم برقم (292) .
(5) زيادة من ت.
(6) زيادة من ت.
(7) صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عنهما.
(8) زيادة من ف، أ.

الصفحة 81