كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 5)

يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذَا قَرَأْتَ -يَا مُحَمَّدُ -عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْقُرْآنَ، جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا مَسْتُورًا.
قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الْأَكِنَّةُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فُصِّلَتْ: 5] أَيْ: مَانِعٌ حَائِلٌ (1) أَنْ يَصِلَ إِلَيْنَا مِمَّا تَقُولُ شَيْءٌ.
وَقَوْلُهُ: {حِجَابًا مَسْتُورًا} أَيْ: بِمَعْنَى سَاتِرٍ، كَمَيْمُونٍ وَمَشْئُومٍ، بِمَعْنَى: يَامِنٍ وَشَائِمٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ يَمنهم وشَأمَهم.
وَقِيلَ: مَسْتُورًا عَنِ الْأَبْصَارِ فَلَا تَرَاهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ حِجَابٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى، وَمَالَ إِلَى تَرْجِيحِهِ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى الْهَرَوِيُّ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ تَدْرُسَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ [الصِّدِّيقِ] (2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (3) ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَتبٍٍَ} [سُورَةُ الْمَسَدِ] جَاءَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ وَلَهَا ولوَلة، وَفِي يَدِهَا فِهْر وَهِيَ تَقُولُ: مُدَمَّما أَتَيْنَا -أَوْ: أَبَيْنَا، قَالَ أَبُو مُوسَى: الشَّكُّ مِنِّي -وَدِينَهُ قَلَيْنَا، وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا. وَرَسُولُ اللَّهِ جَالِسٌ، وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ -أَوْ قَالَ: مَعَهُ -قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَقَدْ أَقْبَلَتْ هَذِهِ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ، فَقَالَ: "إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي"، وَقَرَأَ قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ مِنْهَا: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} . قَالَ: فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَلَمْ تَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ. قَالَ: فَانْصَرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ: لَقَدْ (4) عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي بِنْتُ سَيِّدِهَا (5) .
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} : جَمْعُ "كِنَانٍ"، الَّذِي يَغْشَى الْقَلْبَ {أَنْ يَفْقَهُوهُ} أَيْ: لِئَلَّا يَفْهَمُوا الْقُرْآنَ {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} وَهُوَ الثقْل الَّذِي يَمْنَعُهُمْ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ سَمَاعًا يَنْفَعُهُمْ وَيَهْتَدُونَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} أَيْ: إِذَا وحَّدت اللَّهَ فِي تِلَاوَتِكَ، وَقُلْتَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" {وَلَّوْا} أَيْ: أَدْبَرُوا رَاجِعِينَ {عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} وَنُفُورٌ: جَمْعُ نَافِرٍ، كَقُعُودٍ جَمْعُ قَاعِدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِنْ غَيْرِ الْفِعْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزُّمَرِ: 45] .
قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا قَالُوا: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، أَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ، وَكَبُرَتْ عَلَيْهِمْ، وَضَاقَهَا إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُمْضِيَهَا وَيَنْصُرَهَا ويُفْلجها وَيُظْهِرَهَا عَلَى مَنْ نَاوَأَهَا، إِنَّهَا كَلِمَةٌ مَنْ خَاصَمَ بِهَا فَلَجَ، ومن قاتل بها
__________
(1) في ف: "مانع وحائل".
(2) زيادة من ت.
(3) في ف، أ: "عنهما".
(4) في ف: "قد".
(5) مسند أبي يعلى (1/53) وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح (7/169) .

الصفحة 82