كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 6)
صِحَّةِ مَا قَالَهُ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُجْلَدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً.
الثَّانِي: أَنَّهُ (1) تُرَدُّ شَهَادَتُهُ دَائِمًا.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا لَيْسَ بِعَدْلٍ، لَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَا عِنْدَ النَّاسِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ: هَلْ يَعُودُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ فَتَرْفَعُ التَّوْبَةُ الْفِسْقَ فَقَطْ، وَيَبْقَى مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ دَائِمًا وَإِنْ تَابَ، أَوْ يَعُودُ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ؟ وَأَمَّا الْجَلْدُ فَقَدْ ذَهَبَ وَانْقَضَى، سَوَاءٌ تَابَ أَوْ أَصَرَّ، وَلَا حُكْمَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ -فَذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَارْتَفَعَ عَنْهُ حُكْمُ الْفِسْقِ. وَنَصَّ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ -سَيِّدُ التَّابِعِينَ -وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ أَيْضًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّمَا يَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، فَيَرْتَفِعُ الْفِسْقُ بِالتَّوْبَةِ، وَيَبْقَى مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ أَبَدًا. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ السَّلَفِ الْقَاضِي -شُرَيح، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَمَكْحُولٌ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ (2) .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ، إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ قَالَ الْبُهْتَانَ، فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) }
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا فَرَج لِلْأَزْوَاجِ وَزِيَادَةُ مَخْرَجٍ، إِذَا قَذَفَ أَحَدُهُمْ زَوْجَتَهُ وَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، أَنْ يُلَاعِنَهَا، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (3) وَهُوَ أَنْ يُحْضِرَهَا إِلَى الْإِمَامِ، فَيَدَّعِيَ عَلَيْهَا بِمَا رَمَاهَا بِهِ، فَيُحَلِّفُهُ الْحَاكِمُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ فِي مُقَابَلَةِ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} أَيْ: فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَى، {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ، بَانَتْ مِنْهُ بِنَفْسِ هَذَا اللِّعَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ أَبَدًا، وَيُعْطِيهَا مَهْرَهَا، وَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَى، وَلَا يَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ إِلَّا أَنْ تُلَاعِنَ، فَتَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لِمَنَ الْكَاذِبِينَ، أَيْ: فِيمَا رَمَاهَا بِهِ، {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ولهذا قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ}
__________
(1) في ف: "أن".
(2) في ف: "جابر".
(3) في أ: "الله تعالى".
الصفحة 14
600