كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 6)

ذَلِكَ الْكَلَامِ السَّيِّئِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ شَأْنِ الْإِفْكِ، فَقَالَ: {لَوْلا} بِمَعْنَى: هَلَّا {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أَيْ: ذَلِكَ الْكَلَامَ، أَيْ: الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} أَيْ: قَاسُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لَا يَلِيقُ بِهِمْ فَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي أَيُّوبَ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَامْرَأَتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بَعْضِ رِجَالِ بَنِي النَّجَّارِ؛ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ خالدَ بْنَ زَيْدٍ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ أَيُّوبَ: يَا أَبَا أَيُّوبَ، أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ الْكَذِبُ. أكنتِ فَاعِلَةً ذَلِكَ يَا أُمَّ أَيُّوبَ؟ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ مَا كنتُ لِأَفْعَلَهُ. قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْكِ. قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ ذَكَرَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، مَنْ قَالَ فِي الْفَاحِشَةِ مَا قَالَ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النُّورِ: 11] وَذَلِكَ حَسَّانُ وَأَصْحَابُهُ، الَّذِينَ قَالُوا مَا قَالُوا، ثُمَّ قَالَ: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ} (1) الْآيَةَ، أَيْ: كَمَا قَالَ أَبُو أَيُّوبَ وَصَاحِبَتُهُ (2) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدَيُّ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ (3) عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَفْلَحَ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّ أُمَّ أَيُّوبَ قَالَتْ لِأَبِي أَيُّوبَ: أَلَا تَسْمَعُ (4) مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَفَكُنْتِ يَا أُمَّ أَيُّوبَ [فَاعِلَةً ذَلِكَ] (5) ؟ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ. قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْكِ. فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَذَكَرَ أَهْلَ الْإِفْكِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} يَعْنِي: أَبَا أَيُّوبَ حِينَ قَالَ لِأُمِّ أَيُّوبَ مَا قَالَ.
وَيُقَالُ: إِنَّمَا قَالَهَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ.
وَقَوْلُهُ: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} أَيْ: هَلا ظَنُّوا الْخَيْرَ، فَإِنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلُهُ وَأَوْلَى بِهِ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَاطِنِ، {وَقَالُوا} أَيْ: بِأَلْسِنَتِهِمْ {هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} أَيْ: كَذِبٌ ظَاهِرٌ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الَّذِي وَقَعَ لَمْ يَكُنْ رِيبَةً، وَذَلِكَ أَنَّ مَجِيءَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَاكِبَةً جَهْرَة عَلَى رَاحِلَةِ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ، وَالْجَيْشُ بِكَمَالِهِ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهُمْ، لَوْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِيهِ رِيبَةٌ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا (6) جَهْرَة، وَلَا كَانَا يُقدمان عَلَى مِثْلِ ذلك على رؤوس الْأَشْهَادِ، بَلْ كَانَ يَكُونُ هَذَا -لَوْ قُدر -خُفْيَةً مَسْتُورًا، فتعيَّن أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ أَهْلُ الْإِفْكِ مِمَّا رَمَوا بِهِ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْكَذِبُ الْبَحْتُ، وَالْقَوْلُ الزُّورُ، والرّعُونة الْفَاحِشَةُ [الْفَاجِرَةُ] (7) وَالصَّفْقَةُ الْخَاسِرَةُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْلا} أَيْ: هَلَّا {جَاءُوا عَلَيْهِ} أَيْ: عَلَى مَا قَالُوهُ {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} يَشْهَدُونَ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءُوا بِهِ {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أَيْ: فِي حُكْمِ الله كَذَبَةٌ فاجرون (8) .
__________
(1) في ف، أ: "ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا".
(2) رواه الطبري في تفسيره (18/77) .
(3) في ف، أ: "حبيب".
(4) في ف: "تستمع".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في ف: "هذا".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) في ف: "فجرة".

الصفحة 27