كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 6)

إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَط اللَّهِ، لَا يَدْرِي مَا تَبْلُغ، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أبْعَد مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" وَفِي رِوَايَةٍ: "لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا" (1) .
{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) }
هَذَا تَأْدِيبٌ آخَرُ بَعْدَ الْأَوَّلِ: الْأمْرُ بِالظَّنِّ خَيْرًا أَيْ: إِذَا ذُكِرَ مَا لَا يَلِيقُ مِنَ الْقَوْلِ فِي شَأْنِ الْخِيَرَةِ (2) فَأَوْلَى يَنْبَغِي الظَّنُّ بِهِمْ خَيْرًا، وَأَلَّا يُشْعِرَ نَفْسَهُ سِوَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنْ عَلِق بِنَفْسِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ -وَسْوَسَةً أَوْ خَيَالًا -فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حدَّثت بِهِ أَنْفُسَهَا (3) مَا لَمْ تَقُلْ أَوْ تَعْمَلْ" أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (4) .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} أَيْ: مَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَفَوَّهَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَلَا نَذْكُرَهُ لِأَحَدٍ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أَيْ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى (5) زَوْجَةِ [نَبِيِّهِ وَ] (6) رَسُولِهِ وَحَلِيلَةِ خَلِيلِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} أَيْ: يَنْهَاكُمُ اللَّهُ متوعِّدًا أَنْ يَقَعَ مِنْكُمْ مَا يُشْبِهُ هَذَا أَبَدًا، أَيْ: فِيمَا يُسْتَقْبَلُ. فَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَشَرْعِهِ، وَتُعَظِّمُونَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِالْكُفْرِ فَذَاكَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ.
ثُمَّ قَالَ: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} أَيْ: يُوَضِّحُ لَكُمُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ والحِكَمَ القَدَريّة، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ: عَلِيمٌ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ، حَكِيمٌ فِي شَرْعه وقَدَره.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) }
وَهَذَا تَأْدِيبٌ ثَالِثٌ لِمَنْ سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الْكَلَامِ السَّيِّئِ، فَقَامَ بِذِهْنِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَتَكَلَّمَ بِهِ، فَلَا يُكْثِرُ مِنْهُ وَيُشِيعُهُ وَيُذِيعُهُ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى (7) : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ: يَخْتَارُونَ ظُهُورَ الْكَلَامِ عَنْهُمْ بِالْقَبِيحِ، {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} أَيْ: بِالْحَدِّ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أَيْ: فَرُدُّوا الْأُمُورَ إِلَيْهِ تَرْشُدُوا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا مَيْمُونُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ المَرَئيّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبّاد الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ ثَوْبَان، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تُؤذوا عِبادَ اللَّهِ وَلَا تُعيِّروهم، ولا تطلبوا
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6478) وصحيح مسلم برقم (2988) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(2) في أ: "الحرة".
(3) في ف: "نفسها".
(4) صحيح البخاري برقم (5269) وصحيح مسلم برقم (127) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(5) في ف: "عن".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ف، أ: "قال الله تعالى".

الصفحة 29