كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 6)

هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْحِجَابِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رضي اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ بَعْدَمَا ضُرِبَ الْحِجَابُ لِحَاجَتِهَا، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَسيمَةً لَا تخفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُهَا، فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا سَوْدَةُ، أَمَا وَاللَّهِ مَا تَخْفَين عَلَيْنَا، فَانْظُرِي كَيْفَ تَخْرُجِينَ؟ قَالَتْ: فَانْكَفَأْتُ رَاجِعَةً، ورسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي، وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى، وَفِي يَدِهِ عَرْق، فَدَخَلَتْ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي، فَقَالَ لِي عُمَرُ كَذَا وَكَذَا. قَالَتْ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ رُفعَ عَنْهُ وَإِنَّ العَرْق فِي يَدِهِ، مَا وَضَعَهُ. فَقَالَ: "إِنَّهُ قَدْ أذنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ". لَفَظُ الْبُخَارِيِّ (1) .
فَقَوْلُهُ: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} : حَظَر عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْخُلُوا مَنَازِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، كَمَا كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَصْنَعُونَ فِي بُيُوتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى غَارَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَأَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنْ إِكْرَامِهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ؛ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ" (2) .
ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: {إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} .
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: أَيْ غَيْرَ مُتَحَيِّنِينَ نُضْجَهُ وَاسْتِوَاءَهُ، أَيْ: لَا تَرْقُبُوا الطَّعَامَ حَتَّى (3) إِذَا قَارَبَ الِاسْتِوَاءَ تَعَرَّضْتُمْ لِلدُّخُولِ، فَإِنَّ هَذَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَذُمُّهُ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّطْفِيلِ، وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الضَّيْفَنَ، وَقَدْ صَنَّفَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابًا فِي ذَمِّ الطُّفَيْلِيِّينَ. وَذَكَرَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ أَشْيَاءَ يَطُولُ إِيرَادُهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيجب، عُرسًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ" (4) . وَأَصِلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ دُعيت إِلَى ذِرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إليَّ كُرَاع لَقَبِلْتُ، فَإِذَا فَرَغتم مِنَ الَّذِي دُعيتم إِلَيْهِ فَخَفِّفُوا عَنْ أَهْلِ الْمَنْزِلِ، وَانْتَشَرُوا فِي الْأَرْضِ" (5) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أَيْ: كَمَا وَقَعَ لِأُولَئِكَ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ اسْتَرْسَلَ بِهِمُ الْحَدِيثُ، ونسُوا أَنْفُسَهُمْ، حَتَّى شَقّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ] (6) تَعَالَى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} (7) .
وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ دُخُولَكُمْ مَنْزِلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ (8) كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَتَأَذَّى بِهِ، لَكِنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ حَيَائِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} أَيْ: وَلِهَذَا نَهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ وزجرَكم عنه.
__________
(1) المسند (6/56) وصحيح البخاري برقم (4795) وصحيح مسلم برقم (2170) .
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5232) ومسلم في صحيحه برقم (2172) من حديث عقبة بن عامر، رضي الله عنه.
(3) في أ: "الطعام إذا طبخ حتى".
(4) صحيح مسلم برقم (1429) .
(5) في صحيح البخاري برقم (2568) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(6) زيادة من ف.
(7) بعدها في أ: "والله لا يستحيي من الحق".
(8) في أ: "إذن".

الصفحة 454