كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 6)

بِضِيَائِهِ، وَجَعَلُهُمَا يَتَعَاقَبَانِ، يَجِيءُ هَذَا فَيَذْهَبُ هَذَا، وَيَذْهَبُ هَذَا فَيَجِيءُ هَذَا، كَمَا قَالَ: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الْأَعْرَافِ: 54] ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ هَاهُنَا: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} أَيْ: نَصْرِمُهُ مِنْهُ فَيَذْهَبُ، فَيَقْبَلُ اللَّيْلُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ". (1)
هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَزَعَمَ قَتَادَةُ أَنَّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الْحَجِّ: 61] وَقَدْ ضَعَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ قولَ قَتَادَةَ هَاهُنَا، وَقَالَ: إِنَّمَا مَعْنَى الْإِيلَاجِ: الْأَخْذُ مِنْ هَذَا فِي هَذَا، وَلَيْسَ هَذَا مُرَادًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ حَقٌّ.
وَقَوْلُهُ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ: مُسْتَقَرُّهَا الْمَكَانِيُّ، وَهُوَ تَحْتَ الْعَرْشِ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَهِيَ أَيْنَمَا كَانَتْ فَهِيَ تَحْتَ الْعَرْشِ وَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لِأَنَّهُ سَقْفُهَا، وَلَيْسَ بَكَرَةً كَمَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الْهَيْئَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ قُبَّةٌ ذَاتُ قَوَائِمَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَهُوَ فوق العالم مما يلي رؤوس النَّاسِ، فَالشَّمْسُ إِذَا كَانَتْ فِي قُبَّةِ الْفَلَكِ وَقْتَ الظَّهِيرَةِ تَكُونُ أَقْرَبَ مَا تَكُونُ مِنَ الْعَرْشِ، فَإِذَا اسْتَدَارَتْ فِي فَلَكِهَا الرَّابِعِ إِلَى مُقَابَلَةٍ هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ وَقْتُ نِصْفِ اللَّيْلِ، صَارَتْ أَبْعَدَ مَا تَكُونُ مِنَ الْعَرْشِ، فَحِينَئِذٍ تَسْجُدُ وَتَسْتَأْذِنُ فِي الطُّلُوعِ، كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْم، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ [التَّيْمِيِّ] ، (2) عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتَدْرِي أَيْنَ تغربُ الشَّمْسُ؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الحُميديّ، حَدَّثَنَا وَكِيع عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلَتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} ، قَالَ: "مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ". (3)
كَذَا أَوْرَدَهُ هَاهُنَا. وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ (4) ، وَرَوَاهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ. (5)
وَقَالَ (6) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنَّهَا تذهب حتى تسجد بين يدي
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (1954) ومسلم في صحيحه برقم (1100) من حديث عمر رضي الله عنه.
(2) زيادة من ت، س، أ.
(3) صحيح البخاري برقم (4802، 4803) .
(4) صحيح البخاري برقم (3199، 7424، 7433) .
(5) صحيح مسلم برقم (159) وسنن أبي داود برقم (4002) وسنن الترمذي برقم (3227) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11430) .
(6) في ت: "وروى".

الصفحة 576