كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 6)

وَجَعَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ هَاهُنَا كَالَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ (1) وَتِلْكَ فِي الْجِهَادِ لَا مَحَالَةَ، أَيْ: أَنَّهُمْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ؛ لِضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمْ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التَّوْبَةِ:91، 92] .
وَقِيلَ: الْمُرَادُ [هَاهُنَا] (2) أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الْأَكْلِ مَعَ الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الطَّعَامَ وَمَا فِيهِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَرُبَّمَا سَبَقَهُ غَيْرُهُ إِلَى ذَلِكَ. وَلَا مَعَ الْأَعْرَجِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْجُلُوسِ، فَيَفْتَاتُ عَلَيْهِ جليسُه، وَالْمَرِيضُ لَا يَسْتَوْفِي مِنَ الطَّعَامِ كَغَيْرِهِ، فَكَرِهُوا أَنْ يُؤَاكِلُوهُمْ لِئَلَّا يَظْلِمُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ رُخْصَةً فِي ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، ومِقْسَم.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانُوا قَبْلَ الْمَبْعَثِ يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الْأَكْلِ مَعَ هَؤُلَاءِ تَقَذُّرًا وتَقَزُّزًا، وَلِئَلَّا يَتَفَضَّلُوا عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ} الْآيَةَ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِالْأَعْمَى أَوِ الْأَعْرَجِ أَوِ الْمَرِيضِ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أَخِيهِ، أَوْ بَيْتِ أُخْتِهِ، أَوْ بَيْتِ عَمَّتِهِ، أَوْ بَيْتِ خَالَتِهِ. فَكَانَ الزَّمنى يَتَحَرَّجُونَ (3) مِنْ ذَلِكَ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا يَذْهَبُونَ بِنَا إِلَى بُيُوتِ غَيْرِهِمْ (4) . فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ (5) .
وَقَالَ السُّدّي: كَانَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ بَيْتَ أَبِيهِ، أَوْ أَخِيهِ أَوِ ابْنِهِ، فتُتْحفه الْمَرْأَةُ بِالشَّيْءِ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَا يَأْكُلُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَبَّ الْبَيْتِ لَيْسَ ثَمّ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} ، إِنَّمَا ذَكَر هَذَا -وَهُوَ مَعْلُومٌ -ليعطفَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فِي اللفظ، وليستأديه (6) مَا بَعْدَهُ فِي الْحُكْمِ. وَتَضَمَّنَ هَذَا بُيُوتَ الْأَبْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِمْ. وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِهَذَا مِنْ ذَهَبَ إِلَى أنَّ مَالَ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ مَالِ أَبِيهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ" (7)
وَقَوْلُهُ: {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} ، إِلَى قَوْلِهِ {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} ، هَذَا ظَاهِرٌ. وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُوجِبُ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ [الْإِمَامِ] (8) أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ بن حنبل، في المشهور عنهما.
__________
(1) عند الآية: 17.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "يحرجون".
(4) في أ: "عشيرتهم".
(5) تفسير عبد الرزاق (2/53) .
(6) في أ: "ولا يساوي".
(7) المسند (2/179) وسنن أبي داود برقم (3530) وسنن ابن ماجه برقم (2292) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رَضِيَ الله عنهما.
(8) زيادة من ف، أ.

الصفحة 85