كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 6)

سُورَةِ "الصَّافَّاتِ" حَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالْحُبُورِ، ثُمَّ قَالَ: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصَّافَّاتِ: 62 -70] .
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يَقَع يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ تَقْرِيعِ الْكُفَّارِ فِي عِبَادَتِهِمْ مَن عَبَدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ، مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَالَ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ (1) وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . قَالَ مُجَاهِدٌ: عِيسَى، والعُزَير، وَالْمَلَائِكَةُ. {فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} أَيْ: فَيَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى [لِلْمَعْبُودِينَ] (2) أَأَنْتُمْ دَعَوْتُمْ هَؤُلَاءِ إِلَى عِبَادَتِكُمْ مِنْ دُونِي، أَمْ هُمْ عَبَدُوكُمْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ مِنْكُمْ لَهُمْ؟ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُم} (3) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ؛ [الْمَائِدَةِ: 116 -117] وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يُجيِب بِهِ الْمَعْبُودُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} قَرَأَ الْأَكْثَرُونَ بِفَتْحِ "النُّونِ" مِنْ قَوْلِهِ: {نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} أَيْ: لَيْسَ لِلْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ أَنْ يَعْبُدُوا أَحَدًا سِوَاكَ، لَا نَحْنُ وَلَا هُمْ، فَنَحْنُ مَا دَعَوْنَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ هُمْ قَالُوا (4) ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَمْرِنَا وَلَا رِضَانَا وَنَحْنُ بُرَآءُ مِنْهُمْ وَمِنْ عِبَادَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سَبَأٍ: 40 -41] . (5) وَقَرَأَ آخَرُونَ: "مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُتَّخَذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ" أَيْ: مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَعْبُدَنَا، فَإِنَّا عَبِيدٌ لَكَ، فُقَرَاءُ إِلَيْكَ. وَهِيَ قَرِيبَةُ الْمَعْنَى مِنَ الْأُولَى.
{وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ} أَيْ: طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ، أَيْ: نَسُوا مَا أَنْزَلْتَهُ إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ، مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَتِكَ وَحْدَكَ لا شريك لك.
__________
(1) في ف: "يحشرهم".
(2) زيادة من أ.
(3) بعدها في ف، أ: (إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فيهم فلما توفيتني) .
(4) في أ: "فعلوا".
(5) في هـ: "به" والمثبت من أ، وهو الصواب.

الصفحة 99