كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 7)
شِدَّةِ قُوَاهُمْ، وَمَا أَثّروه فِي الْأَرْضِ، وَجَمَعُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَلَا رَدَّ عَنْهُمْ ذَرَّةً مِنْ بَأْسِ اللَّهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ (1) بِالْبَيِّنَاتِ، وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَاتِ، وَالْبَرَاهِينِ الدَّامِغَاتِ، لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ، وَلَا أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ، وَاسْتَغْنَوْا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فِي زَعْمِهِمْ عَمَّا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُمْ لَنْ نُبْعَثَ وَلَنْ نُعَذَّبَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِجَهَالَتِهِمْ، فَأَتَاهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ مَا لَا قِبَل لَهُمْ بِهِ.
{وَحَاقَ بِهِمْ} أَيْ: أَحَاطَ بِهِمْ {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ: يُكَذِّبُونَ وَيَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ.
{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} أَيْ: عَايَنُوا وُقُوعَ الْعَذَابِ بِهِمْ، {قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} أَيْ: وَحَّدُوا اللَّهَ وَكَفَرُوا بِالطَّاغُوتِ، وَلَكِنْ حَيْثُ لَا تُقَال الْعَثَرَاتُ، وَلَا تَنْفَعُ الْمَعْذِرَةُ. وَهَذَا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ حِينَ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يُونُسَ: 90] ، قَالَ اللَّهُ [تَبَارَكَ وَ] (2) تَعَالَى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يُونُسَ: 91] أَيْ: فَلَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَجَابَ لِنَبِيِّهِ مُوسَى دُعَاءَهُ عَلَيْهِ حِينَ قَالَ: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يُونُسَ:88] . وَ [هَكَذَا] (3) هَاهُنَا قَالَ: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} أَيْ: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ فِي جَمِيعِ (4) مَنْ تَابَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ" (5) أَيْ: فَإِذَا غَرْغَرَ وَبَلَغَتِ الرُّوحُ الْحَنْجَرَةَ، وَعَايَنَ الْمَلِكَ، فَلَا تَوْبَةَ حِينَئِذٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}
آخِرُ تَفْسِيرِ "سورة غافر (6) ، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في أ: "رسلهم".
(2) زيادة من س، أ.
(3) زيادة من س، أ.
(4) في أ: "في جميع عباده".
(5) رواه الترمذي في السنن برقم (3537) وابن ماجه في السنن برقم (4253) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(6) في س: "المؤمن".
الصفحة 160