كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 7)

الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ (1) بْنِ مُسَرِّح الحرَّاني، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْقُرَشِيُّ الْحَرَّانِيُّ، عَنْ مَسْلَمَةَ (2) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي مَشْجَعة بْنِ رِبْعِي، عَنْ ابْنِ زَمْل الْجُهَنِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إذا صَلَّى الصُّبْحَ قَالَ، وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَهُ: "سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ. أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا" سَبْعِينَ مَرَّةً، ثُمَّ يَقُولُ: "سَبْعِينَ بِسَبْعِمِائَةٍ، لَا خَيْرَ لِمَنْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِمِائَةٍ". ثُمَّ يَقُولُ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ النَّاسَ بِوَجْهِهِ، وَكَانَ يُعْجِبُهُ الرُّؤْيَا، ثُمَّ يَقُولُ: "هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا؟ " قَالَ ابْنُ زَمْلٍ: فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: "خَيْرٌ تَلْقَاهُ، وَشَرٌّ تُوَقَّاهُ، وَخَيْرٌ لَنَا، وَشَرٌّ عَلَى أَعْدَائِنَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. اقْصُصْ رُؤْيَاكَ". فَقُلْتُ: رَأَيْتُ جَمِيعَ الناس على طريق رحب سهل لا حب، وَالنَّاسُ عَلَى الْجَادَّةِ مُنْطَلِقِينَ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ أَشَفَى ذَلِكَ الطَّرِيقُ عَلَى مَرْجٍ لَمْ تَرَ عَيْنِي مِثْلَهُ، يَرِفُّ رَفِيفًا يَقْطُرُ مَاؤُهُ، فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَأِ قَالَ: وَكَأَنِّي بِالرَّعْلَةِ (3) الْأَوْلَى حِينَ أَشَفَوْا عَلَى الْمَرْجِ كَبَّرُوا، ثُمَّ أَكَبُّوا رَوَاحِلَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَظْلِمُوهُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا. قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مُنْطَلِقِينَ. ثُمَّ جَاءَتِ الرَّعْلَةُ الثَّانِيَةُ وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُمْ أَضْعَافًا، فَلَمَّا أَشَفَوْا عَلَى الْمَرْجِ كَبَّرُوا، ثُمَّ أَكَبُّوا رَوَاحِلَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، فَمِنْهُمُ الْمُرْتِعُ، وَمِنْهُمُ الْآخِذُ الضِّغْثَ. وَمَضَوْا عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: ثُمَّ قَدِمَ عِظَمُ النَّاسِ، فَلَمَّا أَشَفَوْا عَلَى الْمَرْجِ كَبَّرُوا وَقَالُوا: (هَذَا خَيْرُ الْمَنْزِلِ) . كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَمِيلُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ، لَزِمْتُ الطَّرِيقَ حَتَّى آتِيَ أَقْصَى الْمَرْجِ، فَإِذَا أَنَا بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مِنْبَرٍ فِيهِ سَبْعُ دَرَجَاتٍ وَأَنْتَ فِي أَعْلَاهَا دَرَجَةً، وَإِذَا عَنْ يَمِينِكَ رَجُلٌ آدَمُ شَثْلٌ أَقْنَى، إِذَا هُوَ تَكَلَّمَ يَسْمُو فَيَفْرَعُ الرِّجَالَ طُولًا وَإِذَا عَنْ يَسَارِكَ رَجُلٌ رَبْعَةٌ بَاذٌّ (4) كَثِيرُ خِيلَانِ الْوَجْهِ، كَأَنَّمَا حُمِّمَ شَعْرُهُ بِالْمَاءِ، إِذَا هُوَ تَكَلَّمَ أَصْغَيْتُمْ إِكْرَامًا لَهُ. وَإِذَا أَمَامَ ذَلِكَ رَجُلٌ شَيْخٌ أَشْبَهُ النَّاسِ بِكَ خَلْقًا وَوَجْهًا، كُلُّكُمْ تَؤُمُّونَهُ تُرِيدُونَهُ، وَإِذَا أَمَامَ ذَلِكَ نَاقَةٌ عَجْفَاءُ شَارِفٌ، وَإِذَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّكَ تَبْعَثُهَا. قَالَ: فَامْتَقَعَ لَوْنُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا مَا رَأَيْتَ مِنَ الطَّرِيقِ السهل الرحب اللا حب، فَذَاكَ مَا حُمِلْتُمْ (5) عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى وَأَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَرْجُ الَّذِي رَأَيْتَ، فَالدُّنْيَا (6) مَضَيْتُ أَنَا وَأَصْحَابِي لَمْ نَتَعَلَّقْ مِنْهَا بِشَيْءٍ، وَلَمْ تَتَعَلَّقْ مِنَّا، وَلَمْ نُرِدْهَا وَلَمْ تُرِدْنَا. ثُمَّ جَاءَتِ (7) الرَّعْلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ بَعْدِنَا وَهُمْ أَكْثَرُ مِنَّا أَضْعَافًا، فَمِنْهُمُ الْمُرْتِعُ، وَمِنْهُمُ الْآخِذُ الضِّغْثَ، وَنَجَوْا (8) عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ جَاءَ عِظَمُ النَّاسِ، فَمَالُوا فِي الْمَرْجِ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَأَمَّا أَنْتَ، فَمَضَيْتَ عَلَى طَرِيقَةٍ صَالِحَةٍ، فَلَنْ تَزَالَ عَلَيْهَا حَتَّى تَلْقَانِي. وَأَمَّا الْمِنْبَرُ الَّذِي رَأَيْتَ فِيهِ سَبْعَ دَرَجَاتٍ وَأَنَا فِي أَعْلَاهَا دَرَجَةً، فَالدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، أَنَا فِي آخِرِهَا أَلْفًا. وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي رَأَيْتَ عَلَى يَمِينِي الْآدَمُ الشَّثْلُ، فَذَلِكَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذَا تَكَلَّمَ، يَعْلُو الرِّجَالِ بِفَضْلِ كَلَامِ اللَّهِ إِيَّاهُ. وَالَّذِي رَأَيْتَ عَنْ يَسَارِي الْبَازُّ الرِّبْعَةُ الْكَثِيرُ خِيلَانِ الْوَجْهِ، كَأَنَّمَا حُمِّمَ شَعْرُهُ بِالْمَاءِ، فَذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، نُكْرِمُهُ لِإِكْرَامِ اللَّهِ إِيَّاهُ. وَأَمَّا الشَّيْخُ الَّذِي رَأَيْتَ أَشْبَهَ النَّاسِ بِي خَلْقًا وَوَجْهًا فَذَاكَ أَبُونَا إِبْرَاهِيمُ، كُلُّنَا نَؤُمُّهُ وَنَقْتَدِي بِهِ. وَأَمَّا النَّاقَةُ الَّتِي رَأَيْتَ وَرَأَيْتَنِي أَبْعَثُهَا، فَهِيَ السَّاعَةُ، عَلَيْنَا تَقُومُ، لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَلَا أُمَّةَ بَعْدَ أُمَّتِي". قَالَ: فَمَا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رُؤْيَا بَعْدَ هَذَا إِلَّا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ، فَيُحَدِّثُهُ بِهَا مُتَبَرِّعًا (9) .
وَقَوْلُهُ: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مَرْمُولَةٌ بِالذَّهَبِ، يَعْنِي: مَنْسُوجَةٌ بِهِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وعِكْرِمَة، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ السُّدِّيّ: مَرْمُولَةٌ بِالذَّهَبِ وَاللُّؤْلُؤِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مُشَبَّكَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمِنْهُ سُمِّيَ وَضِينُ النَّاقَةِ الَّذِي تَحْتَ بَطْنِهَا، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ؛ لِأَنَّهُ مَضْفُورٌ، وَكَذَلِكَ السُّرُرُ فِي الْجَنَّةِ مَضْفُورَةٌ بِالذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ.
وَقَالَ: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} أَيْ: وُجُوهٌ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، لَيْسَ أَحَدٌ وَرَاءَ أَحَدٍ. {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} أَيْ: مُخَلَّدُونَ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، لَا يَكْبُرُونَ عَنْهَا وَلَا يَشِيبُونَ وَلَا يَتَغَيَّرُونَ، {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} ، أَمَّا الْأَكْوَابُ فَهِيَ: الْكِيزَانُ الَّتِي لَا خَرَاطِيمَ لَهَا وَلَا آذَانَ. وَالْأَبَارِيقُ: التي جمعت الوصفين. والكؤوس: الْهَنَابَاتُ، وَالْجَمِيعُ مِنْ خَمْرٍ مِنْ عَيْنٍ جَارِيَةٍ مَعِين، لَيْسَ مِنْ أَوْعِيَةٍ تَنْقَطِعُ وَتُفْرَغُ، بَلْ مِنْ عُيُونٍ سَارِحَةٍ.
وَقَوْلُهُ: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ} أي: لا تصدع رؤوسهم وَلَا تُنْزَفُ عُقُولُهُمْ، بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ مَعَ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ وَاللَّذَّةِ الْحَاصِلَةِ.
وَرَوَى الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ خِصَالٍ: السُّكْرُ، وَالصُّدَاعُ، وَالْقَيْءُ، وَالْبَوْلُ. فَذَكَرَ اللَّهُ خَمْرَ الْجَنَّةِ وَنَزَّهَهَا عَنْ هَذِهِ الْخِصَالِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وعِكْرِمَة، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَعَطِيَّةُ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّيّ: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} يَقُولُ: لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا صُدَاعُ رَأْسٍ.
وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: {وَلا يُنزفُونَ} أَيْ: لَا تَذْهَبُ بِعُقُولِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أَيْ: وَيَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَتَخَيَّرُونَ مِنَ الثِّمَارِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ عَلَى صِفَةِ التَّخَيُّرِ لَهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ "عِكْراش بْنِ ذُؤَيْبٍ" الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّرْسِي، حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سَوِيَّةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِكْراش، عَنْ أَبِيهِ عِكْراش بْنِ ذُؤَيْبٍ، قَالَ: بَعَثَنِي بَنُو مُرَّةَ فِي صَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَدِمْتُ عَلَيْهِ بِإِبِلٍ كأنها عروق الأرطى، قال: "من الرجل؟ "
__________
(1) في م، أ: "عبد الله".
(2) في م، أ: "مسلم".
(3) في أ: "وكانوا بالرعلة".
(4) في م: "بار".
(5) في أ: "حملتكم".
(6) في م، أ: "فالدنيا ونضارة عيشها".
(7) في م: "ثم كانت".
(8) في م: "ثم نجوا".
(9) دلائل النبوة (7/36) وفي إسناده سليمان بن عطاء بن قيس، قال ابن حبان في المجروحين (1/329) : "شيخ يروي عن مسلمة ابن عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ عَنْ عَمِّهِ أَبِي مَشْجَعَةَ بن ربعي بأشياء موضوعة لا تشبه حديث الثقات فلست أدري التخليط فيها منه أو من مسلمة بن عبد الله".

الصفحة 520