كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 7)

{أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُواْ الألْبَابِ (9) }
يَقُولُ تَعَالَى: أَمَّنَ هَذِهِ صِفَتُهُ كَمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَجَعَلَ لَهُ (1) أَنْدَادًا؟ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آلِ عِمْرَانَ:113] ، وَقَالَ هَاهُنَا: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} أَيْ: فِي حَالِ سُجُودِهِ وَفِي حَالِ قِيَامِهِ؛ وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْقُنُوتَ هُوَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ، لَيْسَ هُوَ الْقِيَامُ وَحْدَهُ كَمَا، ذَهَبَ إِلَيْهِ آخَرُونَ.
قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: الْقَانِتُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: {آنَاءَ اللَّيْلِ} : جَوْفُ اللَّيْلِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ: بَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: {آنَاءَ اللَّيْلِ} : أَوَّلُهُ وَأَوْسَطُهُ وَآخِرُهُ.
وَقَوْلُهُ: {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} أَيْ: فِي حَالِ عِبَادَتِهِ خَائِفٌ رَاجٍ (2) ، وَلَا بُدَّ فِي الْعِبَادَةِ مِنْ هَذَا وَهَذَا، وَأَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ هُوَ الْغَالِبُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ فَلْيَكُنِ الرَّجَاءُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ (3) الْإِمَامُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ.
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ: "كَيْفَ تَجِدُكَ (4) ؟ " قَالَ: أَرْجُو وَأَخَافُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي يَرْجُو، وَأَمْنَهُ الَّذِي يَخَافُهُ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي "الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ"، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ سَيَّار بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، بِهِ (5) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "غَرِيبٌ. وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا".
وَقَالَ (6) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شبَّة (7) ، عَنْ عُبَيْدَةَ النُّمَيْرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَلَف عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى الخَزَّاز، حَدَّثَنَا (8) يَحْيَى البّكَّاء، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ قَرَأَ: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} ؛ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: ذَاكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَإِنَّمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ ذَلِكَ؛ لِكَثْرَةِ صَلَاةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بِاللَّيْلِ وَقِرَاءَتِهِ، حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ، كَمَا رَوَى ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (9) ، وَقَالَ الشاعر (10) .
__________
(1) في ت: "لله".
(2) في ت: "خائفا راجيا".
(3) في ت: "روى".
(4) في أ: "تحذر".
(5) المنتخب لعبد بن حميد برقم (1368) وسنن الترمذي برقم (983) وسنن ابن ماجه برقم (4261) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10901) .
(6) في ت: "روى".
(7) في أ: "شيبة".
(8) في ت: "عن".
(9) في ت: "عنهما".
(10) هو حسان بن ثابت الأنصاري، والبيت في ديوانه (ص 248) .

الصفحة 88