كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 8)

{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) }
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا يُثِيبُ بِهِ المُصَّدقين والمُصَّدقات بِأَمْوَالِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أَيْ: دَفَعُوهُ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، لَا يُرِيدُونَ جَزَاءً مِمَّنْ أَعْطَوْهُ وَلَا شُكُورًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يُضَاعَفُ لَهُمُ} أَيْ: يُقَابِلُ لَهُمُ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَيَزْدَادُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَفَوْقَ ذَلِكَ {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أَيْ: ثَوَابٌ جَزِيلٌ حَسَنٌ، وَمَرْجِعٌ صَالِحٌ وَمَآبٌ {كَرِيمٌ}
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} هَذَا تَمَامٌ لِجُمْلَةِ، وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ بِأَنَّهُمْ صِدِّيقُونَ.
قَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} هَذِهِ مَفْصُولَةٌ {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} .
وَقَالَ أَبُو الضُّحَى: {أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْكَلَامَ فَقَالَ: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وَهَكَذَا قَالَ مَسْرُوقٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قَالَ: هُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: يَعْنِي الْمُصَدِّقِينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءَ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ] (1) تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النِّسَاءِ: 69] فَفَرَّقَ بَيْنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا صِنْفَانِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الصِّدِّيقَ أَعْلَى مَقَامًا مِنَ الشَّهِيدِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كِتَابِهِ الْمُوَطَّإِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَار، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: "بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ".
اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، بِهِ (2)
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فَأَخْبَرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ بِأَنَّهُمْ صِدِّيقُونَ وَشُهَدَاءُ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مجاهد، ثم قال ابن جرير:
__________
(1) زيادة من أ.
(2) صحيح البخاري برقم (3256) وصحيح مسلم برقم (2831)

الصفحة 22