كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 8)

بِهِ كَمَا يُبَس الرَّجُلُ بِدَابَّتِهِ، فَإِذَا سَكَنَ لَهُ زَنَقَهُ -أَوْ: أَلْجَمَهُ". قَالَ أَبُو هُرَيرة: وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ ذَلِكَ، أَمَّا الْمَزْنُوقُ فَتَرَاهُ مَائِلًا-كَذَا-لَا يَذْكُرُ اللَّهَ، وَأَمَّا الْمُلْجَمُ فَفَاتِحٌ فَاهُ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (1) .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} قَالَ: الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا سَهَا وَغَفَلَ وَسْوَسَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهُ خَنَس. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ.
وَقَالَ الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ: ذُكرَ لِي أَنَّ الشَّيْطَانَ، أَوِ: الْوَسْوَاسَ يَنْفُثُ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ عِنْدَ الْحُزْنِ وَعِنْدَ الْفَرَحِ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهُ خَنَسَ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الْوَسْوَاس} قَالَ: هُوَ الشَّيْطَانُ يَأْمُرُ، فَإِذَا أُطِيعَ خَنَسَ.
وَقَوْلُهُ: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} هَلْ يَخْتَصُّ هَذَا بِبَنِي آدَمَ -كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ -أَوْ يَعُمُّ بَنِي آدَمَ وَالْجِنَّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَيَكُونُونَ قَدْ دَخَلُوا فِي لَفْظِ النَّاسِ تَغْلِيبًا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدِ اسْتَعْمَلَ فِيهِمْ (رجَالٌ منَ الجنَ) فَلَا بِدَعَ فِي إِطْلَاقِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} هَلْ هُوَ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} ثُمَّ بَيَّنَهُمْ فَقَالَ: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} وَهَذَا يُقَوِّي الْقَوْلَ الثَّانِيَ. وَقِيلَ قَوْلُهُ: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} تَفْسِيرٌ لِلَّذِي يُوسوس فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الْأَنْعَامِ: 112] ، وَكَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَر الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدِ بْنِ الْخَشْخَاشِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسْتُ، فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ صَلَّيْتَ؟ ". قُلْتُ: لَا. قَالَ: "قُمْ فَصَلِّ". قَالَ: فَقُمْتُ فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ جَلَسْتُ فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، تَعَوَّذْ بِالْلَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ".
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلْإِنْسِ شَيَاطِينُ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الصَّلَاةُ؟ قَالَ: "خَيْرُ مَوْضُوعٍ، مَنْ شَاءَ أَقَلَّ، وَمَنْ شَاءَ أَكْثَرَ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الصَّوْمُ؟ قَالَ: "فَرْضٌ يُجْزِئُ، وَعِنْدَ اللَّهِ مَزِيدٌ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَالصَّدَقَةُ؟ قَالَ: "أَضْعَافٌ مُضَاعَفَةٌ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّهَا (2) أَفْضَلُ؟ قَالَ: "جُهد مِنْ مُقل، أَوْ سِرٌّ إِلَى فَقِيرٍ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ أَوَّلَ؟ قَالَ: "آدَمُ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَنَبِيٌّ (3) كَانَ؟ قَالَ: "نَعِمَ، نَبِيٌّ مُكَلَّم". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمِ الْمُرْسَلُونَ؟ قَالَ: "ثَلَثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشْرَ، جَمًّا غَفيرًا". وَقَالَ مَرَّةً: "خَمْسَةَ عَشْرَ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ أعظم؟
__________
(1) المسند (2/230) ، وقال الهيثمي في المجمع (1/242) : "رجاله رجال الصحيح".
(2) في م: "فأيها".
(3) في م: "ونبيا".

الصفحة 540