كتاب الواضح في أصول الفقه (اسم الجزء: 1)

قَصدتُ كلمة الكفرِ حال إكراهي. وما الفَرق بينَ المكره والمُختار إذا جَعلتَ المكرَه قاصداً والمختارَ قاصداً؟
قيل: هذا أمرٌ غامضٌ عند أكثر الناس، مُشتبه عليهم، ونحن نكشفه ونُخرجه إلى حَيِّز الوضوح بعون الله، فنقول: إنَّ المُكرهَ قاصدٌ دفْعَ المكروه بالفِعل والقول الذي أكره عليه، وهو غير مُطلَق الدواعي والإِرادات، بل مقصورُ الدواعي، وقد يكره على قَتل من يَودُّ وُيؤْثِر أنَه لا يقتلُهُ، وأنه لو وَجد خلسةً أو طريقاً للتخلص من قَتله لسلكه مبتدراً، وطار إليه هارباً، وطباعه تبكي على ذلك الشخص، ثم إنه يشهد ما يلحقه من الضرر، وَيزِنُه بالضرر الحاصل بالحزن على المُكرَهِ على قَتله، فَلجأ إلى دَفع أعظم الضررين، وهو إزهاق نَفسه وتعذيبها بالجراح، وقَبِل (١) الارتفاقَ بأيسرِهما؛ وهو مَضرتُهُ بغَمِّه وخزنه الداخِلَيْن عليه بالإِضرار بمن لا يَستحق الِإضْرار.
ولنا دواخل من هذا الجنس يتحير مَعها العقلُ، مثل رَوم تناولِ الدواءِ المُر الكَريهِ ريحُهُ وطَعمُهُ وفعلُهُ في النفس، لما يَلحظه المَتداوي من الخَوْفِ على نَفسِهِ من الأمراضِ الممتدةِ الآلام، ولربما كانَت مُزهقةً للنفسِ، فهو مُريدٌ لشربهِ لا لِعَينه، لكن متحَملاً كُلفةَ الألمِ والضرَرِ اليَسير، لدفعِ الألم والضرر (٢) الكثير، فهذا وأمثائه من بَطَ الدُبَيلة (٣)، وقَطعِ اليدِ المتَأَكِّلةِ، تَتحير العقول مَعه بالبادرة، وتَنتهي إلى
---------------
(١) في الأصل: "قبل"، بدون الواو.
(٢) في الأصل: "الضرر والألم الكثير".
(٣) البَط: الشق. والدبيلة: دمّل كبير تظهر في الجوف فتقتل صاحبها غالباً. "اللسان": (بطط) و (دبل).

الصفحة 80