كتاب الوافي بالوفيات (اسم الجزء: 9)

فَقَالَ هما اصْطَحَبا حَيَّيْنِ ثّم تعانقا
فَقلت ضَجيعَين فِي لحدٍ ببابِ ذَرِيِه
فَقَالَ إِذا ارتحل الثاوونَ عَن مستقرّهم
فَقلت أَقَامَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فِيهِ
وَكَانَ الصاحب نادرة عصره وأعجوبة دهره فِي الْفَضَائِل والمكارم أَخذ الْأَدَب عَن ابْن العميد وَابْن فَارس وَسمع من أَبِيه وَمن غير وَاحِد وَحدث وأملي وَاتخذ لنَفسِهِ بَيْتا سَمَّاهُ بَيت التَّوْبَة وَجلسَ فِيهِ أسبوعاً وَأخذ خطوط الْفُقَهَاء بِصِحَّة تَوْبَته وَخرج متحنكاً متطلساً بزِي أهل الْعلم وَقَالَ للنَّاس قد علمْتُم قدمي فِي الْعلم فَكل أقرّ لَهُ بذلك وقالك قد علمْتُم أَنِّي متبلس بِهَذَا الْأَمر الَّذِي أَنا فِيهِ وَجَمِيع مَا أنفقته من صغري إِلَى وقتي هَذَا من مَال أبي وجدي ثمَّ مَعَ هَذَا كُله لَا أَخْلو من تبعات أشهد الله وأشهدكم أَنِّي تائب إِلَى الله عز وَجل من كل ذَنْب أذنبته ولبث فِي ذَلِك الْبَيْت أسبوعاً ثمَّ خرج فَقعدَ للإملاء وَحضر النَّاس الْكثير إِلَى الْغَايَة كَانَ الْمُسْتَمْلِي الْوَاحِد لَا يقوم بالإملاء حَتَّى انضاف إِلَيْهِ سِتَّة كل يبلغ صَاحبه وَكَانَ الأول ابْن الزَّعْفَرَانِي الْحَنَفِيّ وَكَانَ إِذْ ذَاك رئيسهم فَمَا بَقِي فِي الْمجْلس أحد من أهل الْعلم إِلَّا وَقد كتبه حَتَّى القَاضِي عبد الْجَبَّار وَهُوَ قَاضِي الْقُضَاة بِالريِّ
وَقَالَ الصاحب حضرت مجْلِس ابْن العميد عَشِيَّة من عشايا رَمَضَان وَقد حَضَره الْفُقَهَاء والمتكلمون للمناظرة وَأَنا إِذْ ذَاك فِي ريعان شَبَابِي فَمَا تفوض الْمجْلس وَانْصَرف الْقَوْم إِلَّا وَقد حل الْإِفْطَار فأنكرت ذَلِك فِي نَفسِي واستقبحت إغفاله أَمر إفطار الْحَاضِرين مَعَ وفور رياسته واتساع حَاله واعتقدت أَن لَا أخل بِمَا أخل بِهِ إِذا قُمْت مقَامه فَكَانَ الصاحب لَا يدْخل)
عَلَيْهِ أحد فِي رَمَضَان بعد الْعَصْر كَائِنا من كَانَ فَيخرج من دَاره إِلَّا بعد الْإِفْطَار عِنْده وَكَانَت دَاره لَا تَخْلُو كل لَيْلَة من ليَالِي رَمَضَان من ألف نفس مفطرة وَكَانَت صدقاته وقرباته تبلغ فِي شهر رَمَضَان مبلغ مَا يُطلقهُ فِي السّنة كلهَا وَكَانَ فِي الصغر إِذا أَرَادَ الْمُضِيّ إِلَى الْمَسْجِد ليقْرَأ تعطيه والدته دِينَارا فِي كل يَوْم ودرهماً وَتقول لَهُ تصدق بِهَذَا على أول فَقير تَلقاهُ فَجعل هَذَا دأبه فِي شبابه إِلَى أَن كبر وَمَاتَتْ والدته وَهُوَ على هَذَا يَقُول للْفراش فِي كل لَيْلَة اطرَح تَحت المطرح دِينَارا ودرهماً لئلاّ ينساه فَبَقيَ على هَذَا مُدَّة ثمَّ إِن الْفراش نسي لَيْلَة من اللَّيَالِي أَن يطْرَح لَهُ الدِّرْهَم وَالدِّينَار فانتبه وَصلى وقلب المطرح ليَأْخُذ الدِّرْهَم وَالدِّينَار فَمَا رآهما فتطير من ذَلِك وَظن أَنه لقرب أَجله فَقَالَ للفراشين شيلوا كل مَا هُنَا من الْفرش وأخرجوه وَأَعْطوهُ لأوّل فَقير تلقونه حَتَّى يكون كَفَّارَة لتأخير هَذَا فَلَقوا أعمى هاشمياً يتكئ على يَد امْرَأَة فَقَالُوا تقبل هَذَا فَقَالَ مَا هُوَ فَقَالُوا

الصفحة 78