كتاب الوافي بالوفيات (اسم الجزء: 12)

لَيْلَة وَاحِدَة وَلَا اشتغلت فِي النَّهَار بِغَيْرِهِ وجمعت بَين يَدي ظهوراً فَكل حجَّة أنظر فِيهَا أثبت مقدماتٍ قياسيةٍ ورتبتها فِي تِلْكَ الظُّهُور ثمَّ نظرت عساها تنْتج وراعيت شُرُوط مقدماته حَتَّى تحقق لي حَقِيقَة الْحق فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة وَكلما كنت أتحير فِي مَسْأَلَة وَلم أكن أظفر بِالْحَدِّ الْأَوْسَط فِي قياسٍ ترددت إِلَى الْجَامِع وَصليت وابتهلت إِلَى مبدع الْكل حَتَّى فتح لي المنغلق مِنْهُ وتيسر المتعسر
وَكنت أشتغل بِالنَّهَارِ وَاللَّيْل فمهما غلبني النّوم أَو شَعرت بضعفٍ عدلت إِلَى شرب قدحٍ من الشَّرَاب ريثما تعود إِلَيّ قوتي ثمَّ ارْجع إِلَى الْقِرَاءَة وَمهما أَخَذَنِي أدنى نومٍ أحلم بِتِلْكَ الْمسَائِل بِأَعْيَانِهَا حَتَّى إِن كثيرا من الْمسَائِل اتَّضَح لي وجوهها فِي الْمَنَام وَكَذَلِكَ حَتَّى استحكم معي جَمِيع الْعُلُوم ووقفت عَلَيْهَا بِحَسب الْإِمْكَان الإنساني وَدلّ مَا عَلمته ذَلِك الْوَقْت فَهُوَ كَمَا هُوَ عَلَيْهِ لم أزدد فِيهِ إِلَى الْيَوْم حَتَّى أحكمت علم الْمنطق والطبيعي والرياضي ثمَّ عدلت إِلَى الإلهي وقرأت كتاب مَا بعد الطبيعة فَمَا كنت أفهم مَا فِيهِ والتبس عَليّ غَرَض وَاضعه حَتَّى أعدت قِرَاءَته أَرْبَعِينَ مرّة وَصَارَ لي مَحْفُوظًا وَأَنا مَعَ ذَلِك لَا أفهمهُ وَلَا أعلم مَا الْمَقْصُود بِهِ وأيست من نَفسِي وَقلت هَذَا لَا سَبِيل إِلَى فهمه وَإِذا أَنا فِي يَوْم من الْأَيَّام)
قد حضرت الوراقين وبيد دلالٍ مُجَلد يُنَادي عَلَيْهِ فعرضه عَليّ فرددته رد متبرمٍ بِهِ مُعْتَقد أَن لَا فَائِدَة فِي هَذَا الْعلم فَقَالَ لي اشْتَرِ مني هَذَا فَإِنَّهُ رخيصٌ فاشتريته بِثَلَاثَة دَرَاهِم فَإِذا هُوَ كتابٌ لأبي نصرٍ الفارابي فِي أغراض كتاب مَا بعد الطبيعة فَرَجَعت إِلَى بَيْتِي وقرأته فانفتح عَليّ بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت أغراض ذَلِك الْكتاب بِسَبَب أَنه قد كَانَ لي على ظهر قلب وفرحت بذلك وتصدقت ثَانِي يَوْم بِشَيْء كثيرٍ على الْفُقَرَاء شكرا لله تَعَالَى
وَكَانَ سُلْطَان بُخَارى فِي ذَلِك الْوَقْت نوح بن مَنْصُور الساماني فاتفق أَن مرض مَرضا تكع الْأَطِبَّاء فِيهِ وَكَانَ اسْمِي اشْتهر بَينهم بالتوفر على الْعلم وَالْقِرَاءَة فأجروا ذكري بَين يَدَيْهِ فَأمر بإحضاري وشاركتهم فِي مداواته وتوسمت بخدمته فَسَأَلته يَوْمًا دخولي دَار كتبهمْ ومطالعتها وَقِرَاءَة مَا فِيهَا من كتب الطِّبّ فَأذن لي فَدخلت دَارا ذَات بيُوت فِي كل بَيت صناديق كتب منضدة بَعْضهَا على الْبَعْض فِي بيتٍ الْعَرَبيَّة وَالشعر وَفِي آخر الْفِقْه وكل بَيت كتب علمٍ مُفْرد
فطالعت فهرست كتب الْأَوَائِل وَطلبت مَا احتجت إِلَيْهِ وَرَأَيْت هُنَاكَ من الْكتب مَا لم يَقع إِلَيّ اسْمه فَقَرَأت تِلْكَ الْكتب وظفرت بفوائدها فَلَمَّا بلغت ثَمَانِيَة عشر من عمري فرغت من هَذِه الْعُلُوم وَكنت إِذْ ذَاك للْعلم أحفظ وَلكنه الْيَوْم معي أنضج وَإِلَّا فالعلم واحدٌ لم يَتَجَدَّد لي بعده شيءٌ
وَكَانَ فِي جواري رجلٌ يُقَال لَهُ أَبُو الْحسن الْعَرُوضِي فَسَأَلَنِي أَن أصنف لَهُ كتابا جَامعا فِي هَذَا الْعلم فصنفته لَهُ وَهُوَ كتاب الْمَجْمُوع وسميته بِهِ وأتيت فِيهِ على سَائِر الْعُلُوم سوى

الصفحة 244