كتاب واجبات العمال وحقوقهم في الشريعة الإسلامية مقارنة مع قانون العمل الفلسطيني (اسم الجزء: 1)

الدنيا، كالطب إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب، فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد ممن يقوم بها حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى، وسقط الفرض عن الآخرين، فلا يتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والنسج والسياسة بل الحجامة والخياطة" (¬1).
وكم هو لطيف أن نجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُكرم الصنّاع، فيستجيب لدعوة خيّاط يدعوه لطعام، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنهم - يقول:" إن خيّاطاً دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك الطعام، فقرّب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبزاً ومرقاً فيه دباء (القرع) وقديد (اللحم المجفف في الهواء والشمس)، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتبع الدباء من حوالي القصعة، قال: فلم أزل أحبّ الدباء من يومئذ" (¬2)
ويحترم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحاب المهن الشريفة على ضعف مردودها المالي، فقد قدمت امرأة تعمل في النسيج بُردة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذها، حيث روى البخاري عن سهل بن سعد (¬3) - صلى الله عليه وسلم - قال: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ببُردة فقالت: يا رسول الله إني نسجت لك هذه بيدي أكسوكها، فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - محتاجاً إليها، فخرج إليها وإنها إزاره، فقال رجل من القوم: يا رسول الله أكسينيها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: نعم، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، سألتها إياه، لقد علمت أنه لا يردّ سائلاً، فقال الرجل: والله ما سألته إلا لتكون كفني يوم أموت" قال سعد: فكانت كفنه. (¬4)
ولم يكن العمل في التجارة بمنأى عن اهتمام الشريعة الإسلامية، فقال الله - سبحانه وتعالى -:" {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬5)، ولقد امتن الله تعالى على أهل الجزيرة
¬_________
(¬1) الغزالي، محمد محمد، إحياء علوم الدين وبذيله كتاب المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار للعراقي، ج1، ص27،ط3، دار الفكر، بيروت، لبنان.
(¬2) رواه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب ذِكر الخيّاط، ص 496، برقم (2092).
(¬3) من مشاهير الصحابة، يُقال إن اسمه كان حزناً في الجاهلية فغيّره الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سعد، مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس عشرة سنة، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة، وكان ذلك سنة 91هـ. ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، ج2، ص118.
(¬4) رواه البخاري في صحيحه، ج2، ص78، كتاب الجنائز، باب من استعد للكفن.
(¬5) سورة المزمل، آية رقم 20.

الصفحة 27