كتاب وجهة العالم الإسلامي

إن طريقة المؤلف في كتابه هذا لا تقوم على سد التفاصيل والحوادث، بل على تحليل عميق- أعانه عليه ثقافة قوية واطلاع واسع- لمراحل التاريخ، وسير المدنية وتطورها، وهو يقسم تاريخ المجتمع الإسلامي إلى ثلاث مراحل: أولاها: مرحلة الإسلام الأولى في دفعته الإيمانية الحية، وهي أقوى هذه المراحل في حيويتها وقوتها الدافعة وخصبها، وتنتهي في معركة صفين. وثانيتها: مرحلة المدنية الإسلامية، وهي مرحلة التفكير والازدهار الحضاري، وتنتهي بسقوط دولة الموحدين. وثالثتها: مرحلة الجمود والانحطاط؛ ويصف كل مرحلة من هذه المراحل وصفاً تحليلياً عميقاً، ويخص المرحلة الأخيرة بالعناية لأنها المرحلة التي لا نزال نعيش في رواسبها وآثارها، ولأنها تمثل في نظره الصائب مرحلة القابلية للاستعمار.
وهو إذ يصل بتحليله التاريخي إلى هذه النقطة، يلتفت إلى العالم الأوربي، فيستعرض نشأة حضارته وصفاتها الأساسية العميقة التي ترتد إلى عهد بعيد، ويرجع بصفاتها إلى بيئتها الزراعية التي انبثقت عنها، ويسير معها في تطورها حتى يصل بها إلى العصر الحاضر، يذكر في خلال ذلك مناقبها وعيوبها والعناصر المختلفة التي تظاهرت على تكوينها: من مادية منظمة تولدت من زراعة الأرض، إلى روحية غزتها من خارجها وسطوحها بالمسيحية القادمة من الشرق، التي انكمشت وتقلصت واصطبغت بصبغة الحضارة المحلية، إلى العقلية الديكارتية التي تركت في التفكير الحديث أثراً عميقا، إلى الصناعة الكبرى وما آلت إليه من ثورة في القيم والمفاهيم، وأنظمة الحكم والأخلاق.
ثم يقابل المؤلف هنا بين الحلقتين الأخيرتين المتقابلتين من سلسلتي التطور في أوربا وفي البلاد الإسلامية، ويصف ما يكون من التقاء عالمين أحدهما حطت فيه المدنية رحالها، وتردت بردائه، واتسمت بصفاته، وانتهت إلى عهد الاستعمار، وإلى المادية، مادية البورجوازيين (المتمولين) التي تجلت في

الصفحة 11