كتاب وجهة العالم الإسلامي

فالشيخ فضلاً عن أنه قام بعمليات تشذيب في الثقافة الإسلامية، قد كشف للعالم الإسلامي عن وجه الثقافة الغربية حين أدخلها في إعادة تنظيم جامعته الكبرى، وفي كتاباته التي حملت منها الإشعاع الأول، وسنجد أن هذه المحاولات جميعاً قد أدت إلى ما شهدته النهضة الحديثة من بعث فكري. بيد أنه بينما كان البعث (الميجي) في اليابان يوجهها نحو الصناعات، ظل بعث النهضة الإسلامية دهراً طويلاً حبيساً في مجال آخر، تحكمت فيه الميول الطبيعية لدى إنسان ما بعد الموحدين، وهو إنسان لا يكترث بالفاعلية، كما تحكمت فيه المساوئ الخاصة بالمؤسسات الثقافية، وقد أخطأت منذ بعيد هدفها الاجتماعي.
وقد أسهم المصلحون- وأقصد بهم الذين حملوا الراية بعد محمد عبده- بأنفسهم في إبقاء هذه الحال كما هي، إذ ظل الجدل سائداً في المناقشات الأدبية؛ لم يكن المتجادلون يبحثون عن حقائق، وإنما عن براهين، ولم يكن المجادل ليستمع إلى محدثه، بل كان يغرقه في طوفان من الكلام، والجدل من أضر الأمور على كيان الأمة، إذ هو يقوم في عمومه على هيام أحمق بالكلمات.
وهنا يؤدي بنا المقام إلى الحديث عن (الحرفية)، فلقد أبدعت العبقرية العربية أجمل لغات الدنيا، ولكن هذه العبقرية كنت في موقفها مما أبدعت، كالمثّال الذي هام بتمثاله، وقد أبدعه منقاشه، والغرام بالكلمات أخطر من الغرام بالمعدن أو الرخام أو الحجر، فهو يؤدي أولاً وقبل كل شيء إلى أن يفقد الإنسان حاسة تقدير الأمور على وجهها الصحيح، وهو أمر ضروري لكل جهد إيجابي من أجل البناء، وأقل عنوان في جريدة عربية يعطينا دليلاً على ما نقول: فمنذ عهد قريب أعلنت إحدى الصحف في تونس، عن عودة أحد الزعماء السياسيين بعد أن كان مبعداً في الخارج، فوضعت اسمه بعد حشد من الألقاب الفخمة بلغ خمسة أو ستة هي: (المجاهد، الكريم، العظيم، الجليل الزعيم ... الخ) ولا شك أن هذه مجرد ألقاب تفخيمية، ولكن للكلمات العربية وقعاً وجاذبية لا تقاوم على

الصفحة 58