كتاب وجهة العالم الإسلامي

الدين إلى العلوم الحديثة لم يقف عند (فكرة الثقافة)، وإنما انطلق واضعاً على عينيه غشاوة، تحول بينه وبين تأمل الحضارة إلا من جانبها النظري، أو أشيائها التافهة، تجاوباً مع استعداده الخاص للجد أو للهزل، وبهذا الاستعداد ينتسب - عموماً- إلى كلية ما، في عاصمة من العواصم الأوربية.
إن الأحياء اللاتينية واحدة في كل مكان، وهي تعرض دائماً الجانب العلمي الجدلي من الثقافة، كما تعرض الجانب السطحي بمسراته وملاهيه، والطالب لا يمكنه أن يرى فيها تطور الحضارة، وإنما يرى هنالك منها نتيجتها، فهو لا يرى المرأة التي تجمع قبضات العشب لأرانبها، وإنما يرى تلك التي تصبغ أظافرها وشعرها، وتدخن في المقاهي والندوات. وهو لا يرى الصانع والفنان مكبين على عملهما ليحققا فكرة في صفحة المادة، لأنه وقد خضع لتأثير معنى المنفعة لم يعد يلاحظ الطاقات الخفية، الطاقات التي تخلق القيم الأخلاقية والاجتماعية، والتي تجعل الإنسان المتحضر في وضع يمتاز فيه عن الإنسان البدائي، فإن الثقافة تبدأ متى تجاوز الجهد العقلي الذي يبذله الإنسان حدود الحاجة الفردية.
ولن يتاح له أيضاً أن يدرك الجانب العام من الحضارة، ذلك الجانب الذي يغذي نشاط الإنسان المتحضر، ويهب عبقريته الدفعة الخالقة، وكم كان حقاً ما قاله بعضهم من أن ((الأفكار الكبيرة إنما تنبع من القلب)).
لقد خرج ذلك الطالب من عالم باع آثاره ومخطوطاته للسائحين الأمريكيين، فإذا ما ذهب إلى مجال الحياة الأوربية، فلن يستطيع أن يجد معنى لتعلق الأوربي (بالأشياء القديمة) التي تصل الماضي بالمستقبل، بل لن يلاحظ كيف يتعلم الطفل معنى الحياة، واحترام الحياة، وهو يدلل قطة، أو يغرس زهرة، بل لن يلفت نظره ذلك الفلاح الكادح وهو يقف في نهاية خط محراثه ليحكم على عمله متفاعلاً مع التربة تفاعلاً هو الخميرة التي تصنع منها الحضارات.

الصفحة 67