كتاب وجهة العالم الإسلامي

وينكمش. ولكي يتغلب على الجوع يمد يده إلى ما تجود به الطبيعة من تلقاء ذاتها، فإذا به يطعم مثلاً بعض الجذور.
ففي هذه المرحلة الحضارية يتعامل الإنسان مع البيئة، ويتوافق (بالحد الأدنى من الجهد)، أما في طور الحياة الناشطة فإن الإنسان يحقق توافقه ببذل (الحد الأقصى من الجهد) في تنظيم نفسه، فإذا ما أراد مقاومة البرد ابتكر جهازاً للتدفئة، وإذا لم يستطع الحصول عليه لظروف معينة قاومه بصورة أخرى، بأن يبذل جهده ويستهلك طاقته ويضاعف حركته. ولكي يحصل على غذائه، نجده يكيف التراب تكييفاً فنياً، بينما الإنسان البدائي كان يتلمس غذاءه من الأرض دون تكييف.
فالانتقال من الحياة البدائية الراكدة إلى الحياة العاملة الناشطة، هو الذي يسجل إذن بداية حضارة ما أو نهضة معينة. لكن هذا الانتقال يظل في التاريخ من الظواهر غير المفهومة لو أنه استلزم وسائل أخرى غير التي تقدمها البيئة، ولو أنه استخدم في الحصول على تلك الوسائل شيئاً غير ما منحه من قدرات طبيعية يسيطر بها على ذاته وعلى أرضه وعلى وقته.
وليس من شك في أن هذا القول صادق على الرجل المستعمَر، لأنه في حاجة إلى أن يبحث في بيئته عن الوسائل الأولى الأساسية على الرغم من وجود الاستعمار والقابلية للاستعمار.
فالتراب هو عماد حياته المادية، لأنه يعيش على ثمراته في أي ظرف كان، والوقت رهن مشيئته لا ينازعه فيه أحد، ولديه من العبقرية ما يعينه على التصرف فيهما، فهو على هذا يتصرف تصرفاً تاماً في الشروط الضرورية التي تتيح له أن يحصل على وسائل أقوى، ومعنى هذا أنه يستطيع أن يحيل وسائله البدائية وسائل أكمل، كلما قدر على تغيير نفسه، ووعى حقيقة إنسانيته، وما تقتضيه من مسؤوليات.

الصفحة 98