كتاب الوساطه بين المتنبي وخصومه ونقد شعره

توجبُ قلب اللغة، ونقْضَ مباني العربية؛ لأنه جعل الشعراءَ بزعمه أمراءَ الكلام، وأباح لهم التصرّفَ على غير ضرورة؛ وهذه القضية إن سبقت على اطّراد قياسِها زال نظام الإعراب، وجاز للشاعر أن يقول ما شاء، وأن يناول ما أراد عن قرب، فيثقّلُ كل مخفّف، ويخفف كل مثقّل، ويحذف ويزيد، ويغيّر الجموع، ويتحكّم في التصريف، ويتعدّى ذلك الى حركات الإعراب، ويتجاوزُه الى ترتيب الحروف؛ فإذا كان هذا ممتنعاً محظوراً، ومتعذَّرا محجوراً، فلا بدّ من حد يقف عنده الشاعر، وينتهي إليه الفرق بين النظم والنثر، فيزول هذا الأساس الذي مهّده، والأصل الذي قرّره، ويرجع الى ما قالت العلماء فيه، وما أجيزَ للمضطر من التسهيل، وفُضِّل به النظمُ من التسامح، وهي أبواب معروفة، ووجوه محصور أكثرُها، ومعظَمُ ما يوجد فيها رد الكلمة الى أصلها، والى ما أوجب القياس الأعم له؛ مثلصرف ما لا ينصرف؛ لأن ترْك الصرف لعلة، فأزيلت وألحق الاسم بأصل الأسماء. ومثل قصر ما يُعدّ، لأن المَدّة زيادة عارضة فحذفت. ومثل إظهار التضعيف كقوله:
إني أجود لأقوامٍ وإن ضَنِنوا
لأنه الأصل، ونحو هذا وشبهه.
وقد يجيء عن العرب شواذ لا تجعل أصولاً، ولا يلزَم لها قياس؛ لأنّ ذلك لو ساغ واستمر لانْقلبت اللغة، وانتقضت الحقائق، وهُم الى الحذف فيه أميل، وبالتخفيف أولع، وعلى ذلك قالوا: درس المنا؛ يريد المنازل. وقالوا: قواطن مكة من وُرْق الحما يريد الحَمام. وهذا باب يتسع فيه القول، وتتشعّب فيه الوجوه، وقدصنفت فيه كتب معروفة. ولأهْل الكوفة فيه رُخَص لاتكاد توجد لغيرهم من النحويين؛ كإجازتهم مد المقصور، وترك صرف الاسم المنصرف، ونحو ذلك؛ غير أنهم لا يبلغون به مرتبة الإهمال، ولا يرّضونه لتحكم الشعراء، ويجعلون هذا الباب من الضرورة، ويقتصرون به على الحاجة.

الصفحة 453