كتاب الوساطه بين المتنبي وخصومه ونقد شعره

فأما ذكر أبي الطيب في هذا الكلام بَلْعمّ وعَلماء، ونحو ذلك فبمعزل عن هذا الشأن؛ لأنه سائغ في غير الشعر، وجائز في كل الكلام، وأكثر ما تقول العرب: عَلْماءِ بني فلان، وله باب ولا حاجة بنا الى ذكره، بعد أن عرفناك أنه غير متصل بما تنازعه من ضرورات الشعر، وكذلك الأبيات التي عددها في الحذف، فقد قدمنا لك ميْل العرب الى الاختصار، وإيثارَها الى الإيجاز، وغلبة الحذف على كلامها، وكثرته في خطابها.
وقد حكى الأصمعي أن أخوَين من العرب مكثا متهاجرين زماناً، وهما يحُلان ويرتحلان معاً فإذا أراد أحدُهما الرحيل، قال: ألا تا، فجيبه الآخر ألا فا، وعلى هذا الطريق جروا في استعمال الترخيم، وترك الخبر في كثير من الابتداءات في مواضع من الشروط، وهذا لا يوجب التعدي الى ما ترخص به أبو الطيب، وسوّغه لنفسه واحتج به لشعره. فأما قوله: تبيضضي، فجار على ما خبّرناك باحتمال الشعر له من إظهار التضعيف، فأما التشديد الزائد فيه، وفي مستقرنّ والطول ونحو ذلك، فلأنها حروف الرويّ وخواتم القوافي، ومنقطع الكلام، فاحتملت ما لا يحتمله غيرها. ولو ساغ أن يُنصب ذلك علَماً، ويجعل عبرة، ويستمرّ على شريطة القياس لوجب أن لا ينكر على الشاعر إذا قال: رأيت حسناً؛ فشدد النون، أو ضربت محمداً فثقل الدال؛ كما جاز لك في الطولّ ومستقرنّ، ويجري ذلك في سائر الأسماء وجميع الحروف والأفعال، وهذا أمر لا ينتهي إليه عاقل. وقد جاء عن العرب التشديد في أواخر الأسماء إذا وقفوا عليها، وهذا ما يؤكد ما قلناه في تمييز القوافي عن غيرها؛ من حيث كانت العرب تقف عليها، وإن كانت مطلقة.
فأما الألفاظ التي زعم أن الشعراء تفرّدوا بها فإنها موجودة عن أئمة اللغة، وعمن ينتهي السّندُ إليهم، ويُعتَمد في اللسان عليهم؛ وإنما نتكلم بما تكلّموا به، وواحد كالجميع، والنّفَر كالقبيلة، والقبيلة كالأمة، فإذا سمعنا من العربي الفصيح

الصفحة 454