كتاب الوساطه بين المتنبي وخصومه ونقد شعره

الذي يعتد حجة كلمةً اتّبعناه فيها. ثم إن لم تبلغْنا عن غيره، ولم نسمع بها إلا في كلامه لم نزعم أنه اخترعها، ولم نحكم أنه أبو عُذرِها.
وعلى هذا أكثر اللغة؛ لا سيما الألفاظ النادرة، والحروف الفردة. وكم نقل الناس عن أبي مهدية، وأبي الدقيش، وأبي الجراح، وأبي الصقر، والقناني، وأم الهيثم؛ وفلان وفلانة من لفظة لم تسمع قبلَهم، ولم تؤخذ إلا عنهم، ثم ليس لنا أن نجعلهم منفردين بتلك الكلمات، ومختصين بتلك الحروف. وهذا سبيل ما وجد في شعر هؤلاء من الشواذ الغريبة، والألفاظ النادرة. وقد أيّد بعض من يحتج لأبي الطيب ما قدمناه من كلامه بأن قال: قد بيّن الرجل العلة في حسْن هذه الزيادة، وذكر أن النون كما كانت خفيفة وكانت ساكنة، ومن حقها أن تتبيّن عند حروف الحلْقِ حسُن تشديدُها لتظهر ظهوراً شافياً، فهذه علة قريبة قد يحتمل للشاعر تغيير الكلام لأجلها. ويؤكد ذلك أن النون أقرب الحروف الى حروف العلة: الياء والواو، وأكثرها شبهاً بهما؛ ومناسبة لهما؛ لأنها تُدغَم فيهما، وتزاد حيث يزادان؛ فتنصب علماً للصرف، كما يجعلان علامة للإعراب، وتبدل الألف منها في قولك: اضْرِبْن؛ إذا أردْت النون الخفيفة؛ كما تبدل منها في مواضع البدل، وتحُلّ محلّ الواو في قولك: نهْرانيّ وصنعاني؛ وإنما هو نهراويّ وصنعاوي، وتحذف إذا كانت خفيفة كما يحذفان لالتقاء الساكنين فلما جرى معهما هذا المجرى، وحل من مناسبتهما هذا المحل، احتمل ما يحتملانه من حذف وزيادة، وحروف العلة أكثر الحروف احتمالاً، وأوسعها متصَرَّفاً؛ ولذلك يحمل عليها في الحذف، ويتجوز فيها بالزيادة، وعلى هذا استجازوا زيادةَ الياء في صياريف؛ وإنما هو صيارِف؛ إشباعاً للمدة للزوم الكسرة في هذا الموضع. قال الشاعر:
تنفي يداها الحصَى في كل هاجرَة ... نفْيَ الدراهِم تنْقادُ الصّياريف
وقد قال الفرزدق - فزادياء لغير علة إلا لإقامة الوزن:
تبكي عليه الشمس والقمر الذي ... به يبهج السّارون ليلَ التمائم

الصفحة 455