كتاب الوساطه بين المتنبي وخصومه ونقد شعره

وجُذَيلُها المُحكّك؛ فصغر وهو يريد التعظيم.
وقال آخر:
يا سَلمُ أسقاك البُريقُ الوامِضُ ... والدِيَم الغادية الفضافِض
أما تصغير اللفظ على تكثير المعنى فغير منكر؛ وهو كثير في كلام العرب؛ لكن في احتجاج أبي الطيب خلل؛ من قبل أن دُويْهية في هذا الموضع تصغير في المعنى واللفظ، وكذلك جذيلها المحكك لأن هذا الجذل لا يكون إلا لطيف الجرم؛ وإنما هو جذم من النخلة تحتكّ به الإبل، وكما زاد تحكّك الإبل به زاد لطفاً وصِغَراً وضئولة. وإنما وجه القول في هذا أن من التصغير ما يكون جارياً على طريق الاستهانة والتحقير، ومنه ما يراد به الصِّغر واللطافة؛ فأنت إذ قلت: جاءَني رُجيل لم تُبالِ بصغَر جسمه، وتفاوت خلْقه، وقِصَر قامته، إذا أردت تحقيرَ شأنه والإهوان به، ومتى أردت الإخبار عن ضئولته. ودمامة خلْقه لم تعرّج على حاله، ولم تفكر في محله. وقد تقول ذلك للملك على هذا الوجه، وتقول للرجل العادي على الوجه الأول، وقد تفعل ذلك وأنت تريد ذمّه؛ وإن كان قويّ الخُلُق، عظيم الشأن. وذكرُ لَبيد الدويْهية على لفظ التصغير من باب اللطافة دون النِّكاية؛ وقول أبي الطيب لُييلتنا خارج مخرج الذم والهجو، ثم قد أزال الالتباس وأفصح عن المراد بقوله: المنوطة بالتناد، إذ قد بين أنه لم يرد قِصَر مدتها. ولا قرب انقضائها. فأما قول أبي الطيب: إني لم أرد بالتّناد القيامة، وإنما أردت مصدر تَنادَى القوم، وعنيت أنها منوطة بما أهم منه فهو أعْلم بقصده، وأعرب بنيته؛ غير أن نسْق الكلام يشهد عليه. ومن تأمله عرف أنه بأن يراد به القيامة أشبه، ولا عيب فيه لو أراده؛ إنما هو ضرب من الإفراط قد استعمله الشعراء. قال بشار:
أضلَّ النهارُ المستنيرُ طريقَه ... أم الدهر ليلٌ كله ليس يبرَحُ
ومثله كثير موجود.

الصفحة 459