كتاب الوساطه بين المتنبي وخصومه ونقد شعره

قالوا: الزَّنْجيّ لا يوجد إلا جعْدَ الشعر، وإنما تُفرِط الجعودةُ فيهم حتى تخرج عن حدّ الاعتدال، فكيف ينقلِبون من الجُعودة الى الجعودة! قال المحتجّ: إن للأوصاف حدوداً إذا فارقتها الى نقْص أو زيادة زالت الصفاتُ الى ما يخالفُ حقيقة اللغة، أو عادة الاستعمال، وللوصْف بالَعْد نهايةٌ، فإذا زاد فإنما هو المُقلَعِطّ والمُقلَعِدّ، وإن كان على هيئة شعْر الزنج فهو المُفَلْفَل، ونحو ذلك من الأوصاف؛ ولذلك صاروا يمدحون بجُعودة الشعر ويذمّون بشعور الزّنج، فلا شكّ أن ما حمدوه غير ما ذموه، وإنما مُراد الشاعر بقوله انقلبوا جعاد الشعر أنهم صاروا الى حدّ الاعتدال الذي يُحمَد ويُستَحسن ويوصَف به ويختار.
وقوله:
بَليتُ بِلى الأطلالِ إنْ لم أقِفْ بها ... وقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التُرْبِ خاتَمُهْ
قالوا: أراد التناهي في إطالة الوقوف فبالغ في تقصيره؛ وكم عسى هذا الشحيح بالغاً ما بلغ من الشُحّ، وواقعاً حيثُ وقعَ من البُخل أن يقف على طلب خاتمه، والخاتَم أيضاً ليس مما يَخْفى في التُرْب إذا طُلِب، ولا يعسُر وجوده إذا فتش. وقد ذهب المحتجّون عنه في الاعتذار له مذاهبَ لا أرضى أكثرها، وأقرَبُ ما يقال في الإنصاف ما أقوله إن شاء الله تعالى.
أقول إن التشبيه والتمثيل قد يقع تارةً بالصورة والصفة، وأخرى بالحال والطريقة؛ فإذا قال الشاعر - وهو يريدُ إطالة وقوفه: إني أقف وقوفَ شحيحٍ ضاع خاتَمه، لم يُرِد التسوية بين الوقوفين في القَدْر والزمان والصورة، وإنما يريد لأقفَنّ وقوفاً زائداً على القدْر المعتاد خارجاً عن حدّ الاعتدال، كما أنّ وقوفَ الشحيحِ يزيدُ على ما يُعرَف في أمثاله، وعلى ما جرت به العادةُ في أضرابه، وإنما هو كقول الشعر:
رُبّ ليلٍ أمدّ من نفَسِ العا ... شِقِ طولاً قطعْتُه بانتِحابِ

الصفحة 471