كتاب مجلة لغة العرب العراقية (اسم الجزء: 3)

إذ تروي لنا إن الفراعنة كثيراً ما قارعوا ملوك الآشوريين في كركميش لأنهم رأوا حسن موقع تلك المدينة وهي راكبة على مرفق الفرات أو منعطفه وقد شارفت من موطنها وما فيه من الدساكر والرساتيق والقرى والفلاليج والمزارع. وفي الأزمان التي هي أدنى ألينا أي في عهد الرومان كانت إنطاكية الراكبة على العاصي في الموطن الذي يدنو ريف بحر الروم من منعرج الفرات قد نالت من البعد الزهو والثروة والأبهة ما حق لها أن تسمى (بملكة الشرق). وما عساني أن أقول عن تلك الحاضرة الزاهرة، بل درة البر الفاخرة، لا بل يتيمة الدهر النادرة، تدمر القاهرة، فلقد كانت أنشئت عن طريق القوافل، بل في بهرة المراحل، فكانت تنتابها أو تغشاها كلما أرادت ثغور الشام. أو بالعكس كلما أرادت التوجه إلى وادي السلام. فهي أيضاً نالت من شامخ العز، وباذخ المجد، ما جعلها شامة في جبين الدهر. ولما دالت الدول، وقلب الزمان
ظهر المجن لتلك الحواضر، والمدن الزواهر، أبقت لنا من ذكرها أنقاضاً مبعثرةً على أديم الأرض، يشهد على مكانتها من العمران والحضارة، في القرون المنطوية، بل على مكانة لم تبلغها المدن الجديدة التي أنشئت بعدها كالبصرة الفيحاء، وبغداد الحسناء، وديار بكر القورآء، ودمشق الفيحاء، وحلب الشهباء، وغيرها - نعم إنها ورثت من أمهاتهن المنقرضات روح التجارة والمبايعة والمعارضة، لكن هيهات أن يصلن ما وصلت إليه تلك الأمهات الجليلات. فشتان ما هن، وشتان ما بين الدر والحصى، والسيف والعصا.
ومما تقدم بسطه يتضح أن أصحاب الهند لا يطمحون إلى مد أجنحة نفوذهم وسطوتهم على خليج فارس إلا ليجاروا الأمم السابقة التي أوغلت في الحضارة، ونالت قصب السبق في التجارة. وهذه الأسباب نفسها هي التي حدت بالبرتغاليين إلى إحراز مفتاح الهند حينما دخلوا هذه الديار الأخيرة ولهذا كنت ترى سفنهم تمخر عباب الهند، وتشق مياه بحر عمان، ثم تغوص في أغوار بحر فارس، لتذهب إلى البصرة. ولما كانت تقضى لبانتها كانت تغادر البصرة. فتذهب إلى مسقط، إلى قاليقوط (كلكتة) إلى رامني أولامري (سومطرة)، إلى جزيرة الوقواق (مدغسكر)، إلى جزائر القمر، إلى زنجيار، إلى سفالة. وهكذا كانت سفنهم تختلف إلى بلاد وبلاد وتجمع بين ديار آسية وأفريقية وكان كل همهم معاداة غزاة العرب البحريين لأنهم كانوا يغيرون على تلك الثغور ويفعلون بأصحابهم كما يفعلون بأعراب

الصفحة 10