كتاب مجلة لغة العرب العراقية (اسم الجزء: 6)
ولما شاهد الرواة روج التجديد تكتسح القديم وتطرده من ربوعها قابلوا ذلك بازدراء الحديث وإنكار فضله، وبالتشهير بكل من يعرفون فيه بعض التمرد على القديم، من ذلك أن إبن الأعرابي كان يأمر أن يكتب جميع ما يجري في مجلسه فانشده رجل يوما أرجوزة أبي تمام في وصف السحاب على إنها لبعض العرب:
سارية لم تكتحل بغمض ... كدراء ذات هطلان محض
موقرة من خلة وحمض ... تمضي وتبقي نعما لا تمضي
قضت بها السماء حق الأرض
فقال ابن الأعرابي: اكتبوها! فلما كتبوها قيل له إنها لحبيب بن اوس فقال: خرق خرق لا جرم أن أثر الصنعة فيها بين!! فأنت ترى أن أبا تمام أغرب فيها الأغراب كله وتتبع آثار من سلفوا من الرجاز كابي النجم ورؤية حتى أشكلت على ابن الأعرابي ولكن ذلك كله لم يشفع له بل خرقت تخريقا!! لا لأن أثر الصنعة فيها بين بل لأنها شعر حديث! ومن أين يأكل ابن الأعرابي وأمثاله إذا حل الحديث محل القديم؟! على أن كثيرا من الشعراء اشتد حرصهم على إرضاء الرواة وتغالوا في أن يكون لكل بيت من قصيدهم معنى يستقل به عن سابقه ولاحقه مع تحميل بعضها ما لا يطاق من لفظ غريب وقواعد شاذة ليسير سير المثل وليتداوله الرواة في مجالسهم وعلماء النحو والغريب في حلقات الدرس!! وكان الفرزدق شيخ الشعراء الذين نحوا هذا المنحى واتبعوا هذه الطريقة شهد له بذلك ابن سلام في قوله: (كان الفرزدق أكثرهم بيتا مقلدا) والمقلد البيت المستغني بنفسه المشهور وذلك كقوله:
ولو خير السيدي بين غواية ... ورشد أتى السيدي ما كان غاويا
ومن الذي كان يعجب النحويين هذا البيت:
وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه!
ومن الذي كان يعجب النحويين هذا البيت:
وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه!
وكذلك:
ألستم عائجين بنا لعنا ... نرى العرصات أو أثر الخيام؟
فقالوا:
إن فعلت فاغن عنا ... دموعا غير راقئة السجام
هذه الأشياء كلها مجتمعة جوزت للشعراء ما لا يجوز وأباحت لهم الانتحال والسرقة والغصب وحصرت الشعر في دائرة ضيقة! وكم من شعر نسب إلى
الصفحة 678
800