كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 3)
ثم جاؤوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يودِّعُونه فأرسل إليهم بلالًا فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود، قال: «هل بقي منكم أحد؟» قالوا: غلام خلَّفناه على رحالنا هو أحدثنا سنًّا، قال: «أرسلوه إلينا»، فلما رجعوا إلى رحالهم قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقضِ حاجتك منه فإنا قد قضينا حوائجنا منه وودَّعْناه، فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني امرؤ من بني أبذى (¬١) ــ يقول: من الرهط الذين أتوك آنفًا فقضيت حوائجهم ــ فاقضِ حاجتي يا رسول الله، قال: «وما حاجتك؟» قال: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي وإن كانوا قدموا راغبين في الإسلام وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإني والله ما أعمَلَني (¬٢) من بلادي إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني وأن يجعل غناي في قلبي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبل إلى الغلام: «اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه»، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم.
ثم وافوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الموسم بمنًى سنة عشر، فقالوا: نحن بنو أبذى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟» قالوا: يا رسول الله، ما رأينا مثلَه قط، ولا حُدِّثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحمد لله، إني لأرجو أن يموت جميعًا»، فقال رجل منهم: أوليس يموت الرجل جميعًا يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تَشَعَّبُ أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا، فلعل أجلَه أن يدركه في بعض تلك الأودية فلا يبالي الله عز وجل في
---------------
(¬١) بطن من تجيب، وهو أبذى بن عدي بن أشرس.
(¬٢) أي: ما حثَّني وساقني.