كتاب الراغب الأصفهاني وجهوده في اللغة

بعضه وكله.... قال أبو عبيدة: {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي كل الذي تختلفون فيه كقول الشاعر:
أو يعتبط بعض النفوس حمامها
وفي قوله هذا قصور منه؛ وذلك أن الأشياء على أربعة أضرب:
1 - ضرب في بيانه مفسدة فلا يجوز لصاحب الشريعة أن يبينه كوقت القيامة ووقت الموت.
2- وضرب معقول يمكن للناس إدراكه من غير نبي كمعرفة الله ومعرفته في خلق السموات والأرض، فلا يلزم صاحب الشرع أن يبينه, ألا تَرى أنه كيف أحال معرفته على القول في نحو قوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} , وقوله: "وتفكروا" وغير ذلك من الآيات.
3- وضرب يجب عليه بيانه كأصول الشرعيات المختصة بشرعه.
4- وضرب يمكن الوقوف عليه بما يبينه صاحب الشرع كفروع الأحكام. وإذا اختلف الناس في أمر غير الذي يختص بالنبي بيانه فهو مخير بين أن يبين وبين أن لا يبين حسب ما يقتضي اجتهاده وحكمته.
فإذاً قوله تعالى: {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} لم يرد به (كل ذلك) وهذا ظاهر لمن ألقى العصبية عن نفسه. وأما قول الشاعر:
أو يعتبط بعض النفوس حمامها
فإنه يعني به نفسه، والمعنى ألا أن يتداركني الموت، لكن عَرّض ولم يصرح حسبما بنيت عليه جملة الإنسان في الابتعاد من ذكر موته.
بهذه القدرة اللغوية في فهم النصوص القرآنية والأشعار يناقش الراغب أبا عبيدة معمر بن المثنى أحد شيوخ اللغة والنحو في بداية القرن الثالث الهجري، ويظهر خطأه في أن معنى كلمة (بعض) في الآية {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} هو (كل) وذلك بفقه شرعي متميز يوضح ما يجوز لصاحب الشرع أو للنبي عليه السلام أن يبينه وما لا يجوز له أن يبينه، وبالتحاكم إلى فهم سليم لنصوص الشعر، في شطر بيت الشعر المنسوب إلى لبيد، حيث يعني نفسه ولم يعن كل الناس، وننظر إلى قوله: "وهذا ظاهر لمن ألقى العصبية عن نفسه"، إنه يريد أن يقول هذا ظاهر في كل نظر متجرد عن الهوى وبالنظر الموضوعي، كما نقول في هذه الأيام. ولننظر إلى قوله: "حسبما بنيت عليه جملة الإنسان في الابتعاد من ذكر موته" أليست نظرة واقعية إلى طبائع الناس في استبعاد ذكر موتهم، في هذه الحياة؟
خامساً- تطور اللغة- ويبدو أن أبا القاسم الراغب لا يتوفر على خبرة لغوية واسعة وعلى فهم دقيق لأسرار هذه اللغة وحسب؛ بل إن خبرته اللغوية قد مكنته من إدراك التطور الذي أصاب اللغة العربية منذ مرحلة النشأة الأولى التي تبدو في مفرداتها المطلقة على الأمور

الصفحة 231