كتاب اضطراب الناس في مسألة الكلام مع بيان الحق الذي تدل عليه الأدلة وتشهد به الفطر السليمة
أذلاء مهانين فلما أدخلوا المأمون في مذهبهم وتأثر بآرائهم ظهر أمرهم ورفعوا رؤوسهم فعظمت الفتنة والمحنة وثبّت الله أهل الإيمان وورثة الأنبياء على ما ورثوا من الحق والقول الثابت, وعلم الناس سوء مذهب النفاة ومَا فيه من تعطيل الرب تعالى من صفات الكمال من الكلام وغيره, ظهر في ذلك الوقت رجل هو: أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري المتوفى بعد سنة (240) للهجرة بقليل.
وأثبت الصفات مثل الحياة والعلم والقدرة والكلام ونحوها ونفى أن تكون صفات الله تعالى مخلوقة رداً على النفاة القائلين: "إنّ كلام الله مخلوق", فقال: "إنّ كلام الله معنى واحد قائم بنفسه لازم له ليس له حرف ولا صوت".
فسلك مسلكا خالف فيه المعتزلة ولم يوافق أهل الحديث في جميع ما قالوه, وإنما قابل بدعتهم ببدعة, وردّ باطلهم بباطل.
وأنكر ذلك الإمام أحمد بن حنبل والبخاري وغيرهما من أئمة السنة الذين كانوا في زمنه وبعده.
يقول عبد الله بن أحمد: "قلت لأبي: يا أبت إنّ قوما يقولون: "إنّ الله تعالى لم يتكلّم بصوت "، فقال يا بنيّ: "هؤلاء الجهمية إنما يدورون على التعطيل يريدون أن يلبسوا على الناس بل تكلم بصوت…"
قال في النونية عن هؤلاء:
ثم الألى قالوا بغير مشيئة ... وإرادة منه فطائفتان
إحداهما جعلته معنى قائما ... بالنفس أو قالوا بخمس معان
والله أحدث هذه الألفاظ كي ... تبديه معقولا إلى الأذهان
وكذلك قالوا إنها ليست ... هي القرآن بل دلت على القرآن
ولربما سمى بها القرآن تسمية ... المجاز وذاك وضع ثان
والحق في المسألة هو ما ذهب إليه أئمة السنة والحديث من أن الكلام صفة كمال لله عز وجل كسائر الصفات فهو لم يزل ولا يزال متكلما متى شاء وكيف شاء ولكلامه حرف وصوت يسمع, والكلام على هذا القول صفة ذات وفعل قديم النوع حادث الأفراد.
وذلك أن للكلام اعتبارين بالنسبة إلى المتكلم.
أـ كون الكلام صفة معنوية للمتكلم فبهذا الاعتبار يصح أن يقال: الكلام معنى قائم بنفس المتكلم وصفة قائمة بذاته, والصفة لا تقوم إلا بالموصوف.
الصفحة 114
336