كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 20)

قَوْلُهُ تَعَالَى: رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ رِحْلَةَ نُصِبَ بِالْمَصْدَرِ، أَيِ ارْتِحَالِهِمْ رِحْلَةَ، أَوْ بِوُقُوعِ إِيلافِهِمْ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى الظَّرْفِ. وَلَوْ جَعَلْتَهَا فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، عَلَى مَعْنَى هُمَا رِحْلَةُ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، لَجَازَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالرِّحْلَةُ الِارْتِحَالُ. وَكَانَتْ إِحْدَى الرِّحْلَتَيْنِ إِلَى الْيَمَنِ فِي الشِّتَاءِ، لِأَنَّهَا بِلَادٌ حَامِيَةٌ، وَالرِّحْلَةُ الْأُخْرَى فِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ، لِأَنَّهَا بِلَادٌ بَارِدَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: كَانُوا يَشْتُونَ بِمَكَّةَ لِدِفْئِهَا، وَيَصِيفُونَ بِالطَّائِفِ لِهَوَائِهَا. وَهَذِهِ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ أَنْ يَكُونَ لِلْقَوْمِ نَاحِيَةُ حَرٍّ تَدْفَعُ عَنْهُمْ بَرْدَ الشِّتَاءِ، وَنَاحِيَةُ بَرْدٍ تَدْفَعُ عَنْهُمْ حَرَّ الصَّيْفِ، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ النِّعْمَةَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَشْتِي بِمَكَّةَ نَعْمَةٌ ... وَمَصِيفُهَا بِالطَّائِفِ
وَهُنَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- اخْتَارَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِإِيلافِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالسُّورَةِ الْأُخْرَى- وَقَدْ قُطِعَ عَنْهُ بِكَلَامٍ مُبْتَدَأٍ، وَاسْتِئْنَافِ بَيَانٍ وَسَطْرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ جَوَازُ الْوَقْفِ فِي الْقِرَاءَةِ «١» لِلْقُرَّاءِ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ، وَلَيْسَتِ الْمَوَاقِفُ الَّتِي يَنْتَزِعُ «٢» بِهَا الْقُرَّاءُ شَرْعًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْوِيًّا، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِهِ تَعْلِيمَ الطَّلَبَةِ الْمَعَانِيَ، فَإِذَا عَلِمُوهَا وَقَفُوا حَيْثُ شَاءُوا. فَأَمَّا الْوَقْفُ عِنْدَ انْقِطَاعِ النَّفْسِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَا تُعِدْ مَا قَبْلَهُ إِذَا اعْتَرَاكَ ذَلِكَ، وَلَكِنِ ابْدَأْ مِنْ حَيْثُ وَقَفَ بِكَ نَفَسُكَ. هَذَا رَأْيِي فِيهِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى مَا قَالُوهُ، بِحَالٍ، وَلَكِنِّي أَعْتَمِدُ الْوَقْفَ عَلَى التَّمَامِ، كَرَاهِيَةَ الْخُرُوجِ عَنْهُمْ. قُلْتُ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا، قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ثُمَّ يَقِفُ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ يَقِفُ. وَقَدْ مَضَى فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ «٣». وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ
---------------
(١). في ابن العربي: (في القرآن).
(٢). في ابن العربي: (تنزع).
(٣). راجع ج ١ ص ١٠ فيما بعد.

الصفحة 206