كتاب مقامات بديع الزمان الهمذاني - العلمية

"""""" صفحة رقم 245 """"""
سَرَّنِي ، وَإِنَّمَا كانَتْ حَاجَةٌ فِي نَفْسِ يَعْقوبَ قَضَاهَا . ْرُ بُّلىً ، فَشَرِبَ حَتَّى ثَمِلَ ، وَجَعَلْتُ فِي فِيهِ دِينَارَيْنِ أَحْمَرَينِ ، وَقُلْتُ : شَأْنَكَ وَالقَوْمَ ، فَحَلَقَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَ عَشْرَةَ لِحْيَةً ، فَصَارَ القَوْمُ جُرْداً مُرْداً ، كَأَهْلِ الجَنَّةِ ، وَجَعَلْتُ لِحْيَةَ كُلَِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَصْرُورَةً فِي ثَوْبِهِ ، وَمَعْهَا رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا : ( مَنْ أَضْمَرَ بِصَدِيقِهِ الغَدْرَ وَتَرْكَ الوَفَاءِ ، كَانَ هَذَا مُكَاَفأَتَهُ وَالجَزَاءَ ) . وَجَعَلْتُهَا فِي جَيْبِهِ ، وَشَدَدْنَاهُمْ فِي الصِّنَانِ ، وَوَافَى الحَمَّالُونَ عِشَاءَ الآخِرَةِ ، فَحَمَلُوهُمْ بِكَرَّةٍ خَاسِرَةٍ ، فَحَصَلُوا فِي مَنَازِلِهِمْ ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا رَأَوْا فِي نُفُوسِهِمْ هَمَّاً عَظِيماً ، لا يَخْرُجُ مِنْهُمْ تَاجِرٌ إِلَى دُكَّانِهِ ، وَلا كَاتِبٌ إِلَى دِيَوَانِهِ ، وَلا يَظْهَرُ لإِخْوانِهِ ، فَكَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَأْتِي خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ خَوَلِهِمْ ، وَمِنْ نِسَاءٍ وَغِلْمَانٍ وَرِجَالٍ يَشْتِمُونَنِي وَيُزَنُّونَنِي ، وَيَسْتَحْكِمُونَ اللهَ عَليَّ ، وَأَنَا سَاكِتٌ لا أَرْدُّ عَلَيهِمْ جَوَاباً ، وَلَمْ أَعْبَأُ بِمَقَالِهِمْ ، وَشَاعَ الخَبَرُ بِمَدِينَةِ السَّلامِ بِفُعْلِي مَعَهُمْ ، وَلَمْ يَزَلِ الأَمُرُ يَزْدَادُ حَتَّى بَلَغَ الوَزِيرَ القَاسِمَ بْنَ عُبَيْدِ اللُه . وَذَلِكَ أَنَّهُ طَلَبَ كَاتِباً لَهُ فَافْتَقَدَهُ ، فَقِيلَ : إِنَّهُ فِي مَنْزِلِهِ لا يَقْدِرُ عَلى الخُرُوجِ ، قَالَ : وَلِمَ ? قِيلَ : مِنْ أَجْلِ مَا صَنَعَ أَبُو العَنْبَسِ ؛ لأَنَّهُ كَانَ امْتُحِنَ بِعِشْرَتِهِ وَمُنَادَمَتِهِ ، فَضَحِكَ حَتَّى كَادَ يُبَوِلُ فِي سَرَاوِيلِهِ أَوْ بَالَ ، واللهُ أَعْلَمْ . ثُمَّ قَالَ : واللهِ لَقَدْ أَصَابَ وَمَا أَخْطَأَ فِيمَا فَعَلَ ، ذَرُوهُ فَإِنَّهُ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهِمْ ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيَّ خِلْعَةً سَنِيَّةً ، وَقَادَ فَرَساً بِمَرْكَبٍ ، وَحَمَلَ إِلَيَّ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، لاسْتِحْسَانِهِ فِعْلِي ، وَمَكَثْتُ فَي مَنْزِلِي شَهْرَيْنِ أُنْفِقُ وَآكلُ وَأَشْرَبُ ، ثُمًّ ظَهَرْتُ بَعْدَ الاسْتِتَارِ ، فَصَالَحَنِي بَعْضُهُمْ لِعِلْمِهِ بِمَا صَنَعَ الوَِزيرُ ، وَحَلَفَ بَعْضُهُمْ بِالطَّلاَقِ الثَّلاَثِ وَبِعِتْقِ غِلْمَانِهِ وَجَوَارِيهِ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُنيِ مِنْ رَأْسِهِ أَبَداً ، فَلا واللهِ العَظِيمِ شَانُهُ ، العَلِيِّ بُرْهَانَهُ ، مَا اكْتَرَثْتُ بِذَلِكَ ، وَلا بَالَيْتُ ، وَلا حُكَّ أَصْلُ أُذُنِي ، وَلا أَوْجَعَ بَطْنِي ، وَلا صَرَّنِي ، بَلْ سَرَّنِي ، وَإِنَّمَا كانَتْ حَاجَةٌ فِي نَفْسِ يَعْقوبَ قَضَاهَا .
وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذا وَنَّهْتُ عَلَيْهِ لِيُؤْخَذَ الحَذَرُ مِنْ أَبْنَاءِ الزَّمَنِ ، وَتُتْرَكَ الثِّقَةُ بِالإِخْوانِ الأَنْذَالِ السَّفَلِ ، وَبِفُلاَنٍ الوَرَّاقِ النَّمَّامِ الزَّرَّافِ الَّذِي يُنْكِرُ حَقَّ الأُدَبَاءِ ، وَيَسْتَخِفُّ بِهِمْ ، وَيَسْتَعِيرُ كُتُبَهُمْ لا يَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ ، وَاللهُ المُسْتَعَانُ ، وَعَلَيْهِ التُكْلاَنُ .

الصفحة 245